الحروفيُّون أحباب "الفاتح"

محمد "الثاني" خالف العُلماء

بإيواء مؤسسهم "التبريزي"

الحروفية طريقة عقائدية باطنية تأسست على يد فضل الله الحُرُوفي المولود في استر أباد سنة 740 ه/ 1340 م، حين تجرأ بإعلان نفسه خليفة لله على أرضه، مُشبهًا نفسه بآدم وعيسى ومحمد عليهم السلام، وكان لادعاءاته ردِّة فعل شعبية في بلاد فارس، ما جعله مُطاردًا إلى أن قُتل سنة 804 ه/ 1402 م. تركزت دعوته إجمالاً حول مفهوم أن المعرفة بالله تكون باللفظ المتأثِر بالحروف التي لها قيم عدديِّة، وهذا كان من أكبر مداخل الحروفية إلى التفسير الباطني للقرآن الكريم، وربطه بالحروف
وتركيز الحروفيِّة على العبادة اللفظية؛ جعلها تحصر تواصل الإنسان مع الله باللفظ فقط، وهي ترى أن المعرفة بالألفاظ تمثل مظهر الموجودات، وبالتالي فاللفظ مُقدِّمٌ على المعنى، وتستبين اللفظيات من خلال الحروف العربية وعددها 28 والفارسية وعددها 32 ، والصلة بين اللغتين في حرف (اللام ألف)، الذي يجمع الحروف الفارسية الزائدة على العربية، وبناءً عليه أصبحت الفارسية مُفسِّرة للغة العربية، ويزداد الأمر خصوصيِّةً في الفارسية بحسبانها تمثل العمق التفسيري المؤول للقرآن الكريم وحروفه ومعانيه اللفظية، والمُفسِّر -أيضًا – لمظاهر العالم الظاهرة والباطنة، لذلك لموسى عليه السلام أهميةً في الفكر لأنه بُعث بجوامع الكلِم،  الحروفي لأنه كليم الله، ومحمد وبالتالي يتطور الأمر ليصبح علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) الناطق بكلام الله حسب عقيدتهم.

حصروا تواصلهم مع الله لفظًا

بدأ أثر الحروفيِّة في الأناضول منذ عصر سلاجقة الروم، وتواصل امتداده بعد ذلك عبر مختلف حقب تاريخ الدولة العثمانية، وقد أشار مجموعة من المؤلفين الأتراك في كتاب: (الدولة العثمانية تاريخ وحضارة) إلى أن الأناضول كانت متأثرة دائمًا بما كان يفِد إليها من تعاليم التيارات الدينية الصادرة عن إيران، ويؤكد هؤلاء المؤرخون أن تأثير الحروفيِّة كان حيًا نابضًا ونافذًا على الطُّرُق الصوفيِّة، وعلى رأسها الطريقة البكتاشية وهي أهمها، لأنها حظيت بدعمٍ غير محدود من سلاطين الدولة العثمانية، حيث تبلور الفكر الحُرُوفي في رؤاها وتطبيقاتها، وفي غيرها باستلهام المعاني الخاصة والخفيِّة للحروف، وتبلور ممزوجًا بفلسفة وحدة الوجود، وقد وجد الحروفيِّون ملجأً وملاذًا آمنًا لهم في الأناضول ومناطق الروميلي من خلال تغلغلهم في مفاصل المجتمعات التركية، وتأثروا أول الأمر بالطريقة القلندرية، ومن ثم الطرق الأخرى.

البكتاشية

تُعدّ البكتاشية إحدى أهم الطُّرُق الصوفية في الدولة العثمانية لما لها من أثر رسميٍّ فيها، خاصةً أنها كانت الراعية للجيش الإنكشاري، إذ ارتبط أفراد الإنكشاريين بالبكتاشية وتعاليمها، حتى أن معسكراتهم كانت مملوءة بشيوخ البكتاشية الموجهين، وقد عُرف في التاريخ العثماني أن الجيش الإنكشاري كان تحت تصرف البكتاشية وتوجيهها، وتأثروا وأطاعوها أكثر مما أطاعوا السلاطين العثمانيين، وهذا ما جعل السلاطين يتناغمون مع البكتاشية باعتبار ما تمثله من دعمٍ لهم بين صفوف الإنكشارية. أسِّس هذه الطريقة الحاج بكتاش الذي عاش خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي في الأناضول.

المرجع:
خليل إينالجيك، تاريخ الدولة العثمانية (بيروت: دار المدارالإسلامي، 2002).

وحدة الوجود

وتُعرف بالاتحادية، وتتلخص فلسفة وحدة الوجود بالقول بأن الله والطبيعة حقيقة واحدة، وأن الله هو الوجود الحق، ويصوِّرون الله بما حولهم من مخلوقات، فيما أن كل ما هو مادي في المخلوقات ما هو إلا تعبير عن وجود الله، وإلا فإن الماديات ليس لها وجود قائم بذاتها. ومن أبرز الذين قالوا بها وأعادوا إحياءها في التاريخ الإسلامي محيي الدين بن عربي، وابن الفارض، وغيرهم ممن تأثروا بالفلسفة الأفلاطونية المحدثة وفلسفة الرواقيين. وينظر إليهم علماء السُّنة على أنهم زنادقة، وأن من يقول بقولهم خارج من المِلِّة.

المرجع:
أحمد القصيِّر، عقيدة الصوفيِّة وحدة الوجود الخفيِّة (الرياض: مكتبة . الرُّشد، 200 )

القلندرية

تُعتبر من الطُّرق ذات المنشأ الخُرساني، وقد انتشرت بعد ان أسسها جمال الدين الساوي سنة 463 ه/ 1070 م، ووصلت إلى العراق وسوريا ومصر والهند والأناضول، وقد واجهت في البداية هجومًا عنيفًا من قبل الطُّرُق الصوفية السُّنيِّة لما كانت تؤمن به من طقوس غريبة ومريبة، كذلك ما كان ينتهجه القلندريون من إباحيِّة ممقوتة، وبالتالي كانوا يطمحون للعزوبة والفقر والتسوّل، فقد كانوا يطوفون مدن الأناضول بأزيائهم الغريبة ورؤوسهم الحليقة مع شواربهم وحواجبهم، بحيث يحملون أعلامًا خاصةً بهم وهم يقرعون الطبول، وكانت أبرز الأمور التي جعلت المجتمع الأناضولي يمقتهم بشكلٍ مباشر أنهم كانوا يعمدون للتمرد على النظم الاجتماعية والأخلاقية.

المرجع
محمد كوبريلي، قيام الدولة العثمانية، ترجمة: أحمد السعيد . ( القاهرة: دار الكاتب العربي، 19 )

وأبرز اتصال بين الحروفيّة وسلاطين الدولة العثمانية كان في عهد محمد الفاتح، إذ ورد في كتاب “الشقائق النعمانية” ما نصهُّ:
“بَعْضًا من أتباع فضل الله التبريزي رَئِيس الطِّائِفَة الحروفية الضِّالة نَالَ خدمَة السُّلْطَان مُحَمِّد خَان وَأظْهر بَعْضًا من معارفه المزخرفة حَتِّى مَال إليه السُّلْطَان مُحَمِّد خَان وآواه مَعَ اتِّبَاعه فِي دَار السِّعَادَة واغتم لذَلِك الْوَزير مَحْمُود باشا غَايَة الاغتمام وَلم يقدر أن يتَكَلِّم فِي حَقهم شيئًا خوفًا من السُّلْطَان”.
وبذلك وصل الحروفيِّون إلى قصر الفاتح وقرِّبهم منه، ومن بينهم عثمان بابا القلندري، الذي كان على ارتباط قوي جدًا بالمتنفذين في القصر والفاتح على رأسهم. وعثمان هذا كان أحد شيوخ الطريقة القلندرية، وهذا ما يفسِّر لنا الارتباط القوي بين القلندرية والحروفيِّة، لذلك يقول إحسان أوغلي وآخرون: “وخلاصة القول إنه يجب علينا ونحن نفتِّش عن جماعة الحروفيِّة أن نبحث عنهم تحت صفة القلندرية والبكتاشية، وليس تحت صفة الحروفيِّة في القرن الخامس عشر وما بعده”.

إحسان أوغلي: فتشوا عنهم في "القلندرية والبكتاشية"

وحقيقةً إن كلامًا كهذا، يُعدُّ تأكيدًا مصدريًا بأفواه مؤرخين أتراك على مدى ارتباط الحروفيِّة بالقلندرية والبكتاشية، ومدعِّم بشواهد ساقوها؛ لذلك يبدو صادمًا ومُرهقًا لمن يؤمن بالتمذهب السُّني الذي كان مُعلنًا من الدولة العثمانية.
ولو أن الأتراك أنفسهم لم يقولوا بباطنية الحروفية وأفكارها المرتبطة بالطُّرُق الرسميِّة للدولة العثمانية، لقلنا إن الجهل المُركِّب لديهم بأصول الشريعة والعقيدة الصحيحة قد ساقهم للإيمان بالأفكار الباطنية، ولكن بعض المعاصرين كانوا ينبهون السلاطين إلى خطر الحروفيِّة وارتباطاتها بالطُّرق المختلفة، غير أن شيئًا مما كانت تؤمن به يجد هوىً لدى بعض السلاطين ويخدم سياساتهم، فيبذلون لها الدعم بأشكال مختلفة.
وعلى الرغم من أن بعض الحروفييِّن طورد وقُتل، إلا أنهم نجحوا في أن يكون لهم تمثيل رسمي بحسبان أنهم حروفيِّون قبل أن يكونوا مندسيِّن في الطُّرق الرسميِّة، ففي عام 848 ه/ 1444 م وخلال الفترة الأولى من حكم الفاتح؛ كان لهم تمثيل رسمي في أدرنة، ولهم مبعوث فارسي في بلاط السلطان، واستمر الأمر على ذلك حتى اعترض مجتمع أدرنة على هذا التمثيل بذريعة أن الحروفيِّة ذات منبع نصراني، ولكن كان ثمة خشية من أن تُشن حملة صليبية بمساعدتهم على أدرنة العاصمة العثمانية قبل إسطنبول، لذلك سكت القصر العثماني عما فعله المجتمع حين أحرقوا مبعوثهم الفارسي، وقطعوا ألسنة أتباعه في عاصمتهم، ويقال إنهم قُدِّروا ب 2007 حروفيِّين، ولم تستاء منهم الحكومة العثمانية إلا بعد أن اتهم الحروفيون بتدبير حركة اغتيال السلطان بايزيد الثاني.
وباعترافٍ آخر للمؤرخ التركي شيمشيرغل، يفيد بأن محمد الفاتح كان يكنّ احترامًا فائقًا لكبار الصوفيِّة، ويقضي أوقاتًا طويلة في مسامرتهم، ومما كان متداولًا عنه، والذي يرسم علامة استفهام كبيرة جدًا حوله، أنه:
“كان يكنّ تقديرًا كبيرًا، وتوقيرًا عظيمًا للمتصوفين، وأهل الباطن والعرفان، وكان يُسارع إلى خدمتهم، وتوفير أسباب الراحة لهم، ويزورهم على الدوام ليتبرك بدعواتهم الصالحة”.
ولو تم تجاوز التصوُّف والتِّبرُك بالصالحين؛ فإن تقدير محمد الفاتح وتوقيره لأهل الباطن والعرفان يُشكِّل أكبر علامة استفهام حول علاقته المشبوهة بالحروفيِّة.
وكما كان للسلطان الفاتح علاقة مشبوهة بالحروفيِّة، جاء بعده السلطان سليم الأول وكانت له أيضًا علاقة أكثر شُبهةً مع الحروفيِّة، وفق ما ذكر ذلك (أوليا جلبي) (ولد: 1020 ه/ 1611 م)، فقد أكدِّ (جلبي) أن سليم الأول أنِسَ بعلم الجفر الذي له ارتباط بالحروفيِّة، ويقال أنه سأل الشيخ ناصر الطرسوسي عما إذا سيتيسر له فتح مصر، وبشره بأن عليًا بن أبي طالب (رضي الله عنه) – كما يزعم – قال: “لا بد من سليم آل عثمان يملك الروم والعجم ثم يملك جزيرة العرب”، كما بشِّره بأن القرآن الكريم قد أشار لسليم وفتحه برواية متواترة بحسب إيمان المؤلف جلبي، ومنها قوله تعالى: `{فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلِّمْنَاهُ مِن لِّدُنِّا عِلْمًا} (الكهف: 65 ) بأنها تُشير بالرموز إلى سليم الأول، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزِّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنِّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصاِّلِحُونَ} (الأنبياء: 105) ، أشار إلى أن كلمة (ولقد) تساوي: 140 ، وهي عدد لفظ سليم إشارةً له، وكلمة (ذكر) تساوي: 920، وجملة (من بعد الذكر) تعني: أي بعد 900 ، ستكون فاتح مصر، وذكر في نهاية تفسيره أن الله عدِّ سليمًا من عباده الصالحين، وتمادى الأمر في إيمان سليم به أن سأله عن المدة التي سيقضيها في سلطنته، لكن الطرسوسي احتج بأن ذلك في علم الغيب، فيما أنه أوِّل الآيات بتفسيرات لا يمكن أن يكون لها بعدًا علميًا. لكن أوليا جلبي لم يتوانَ في أن يزعم بأن لفظ (جدا) يساوي رقم ثمانية، بمعنى أن فتح سليم لمصر وعودته إلى إسطنبول ومدة سلطنته ثمانِي سنوات.
ويُعدُّ السلطان سليم من أكثر السلاطين الذين وردت عنهم روايات حول رؤية الرسول المنام، سواءً ما تعلِّق منها ببشارات فتح مصر، أو بتقديم توجيهات مباشرة له، وتجاوز الأمر إلى ما بحقيقته  رواه جلبي عن قصة المملوكي الذي تسلِّل إلى غرفة سليم في مصر لقتله، وجاء الرسول لتنبيه سليم من نومه كي لا يُقتل، وهذه الرواية موجودة لدى جلبي من دون أن ينقدها أو حتى يعلق على ما جاء فيها، بل إنه أوردها كحقيقة لا تقبل الجدل، وذكرها كإحدى الكرامات التي اختص بها سليم، وغير ذلك الكثير مما أورده في ترجمة سليم الأول، علمًا أن جلبي لم يكن بينه وبين سليم سوى قرن من الزمان، واكتسبت هذه المرويات صفة الحقائق في بعض مصادر التاريخ العثماني، رغم ما يكتنفها من شُبه وتدليس وكذب وعلاقة مشبوهة مع الحروفيِّة.
ومن أكثر ما زخرت به الروايات في المصادر العثمانية ما رُوِي عن اكتشاف سليم الأول لقبر محيي الدين بن عربي (توفي: 638 ه/ 1240 م) في دمشق، حيث ورد نقلاً عن ابن عربي أنه قال: “إذا دخلت السين في الشين يظهر محيي الدين”، ورويت هذه المقولة بأكثر من صياغة، وفُسرِّت في كتب التاريخ على أن المقصود بها إذا دخل سليم إلى الشام يظهر قبر محيي الدين، وبطبيعة الحال فقد وجدت هذه النبوءة المزعومة لابن عربي هوىً لدى العثمانيين، وشكِّلت لهم قناعة بأن سليمًا انكشف له قبره في دمشق، وبنى له مزارًا ومرافقًا في الصالحية
ومن السهل لمثل هذا الفكر الذي يحظى بدعم سلاطين الدولة العثمانية أن ينساق خلف الحروفيِّة وتأويلاتها وأفكارها الباطنية، وأيضًا خلف غيرها من الأفكار التي ليس لها علاقة بأصول الدين الإسلامي ولا بالمذهب السُّني. وتشير الروايات إلى أن أكبر دعم للباطنية من العثمانيين كان عبر الطريقة البكتاشية المخترقة من الباطنية.

ابن عربي

638-560 ه/ 1165 - 1240 م

أبو بكر محمد بن علي بن عربي الطائي، ولد في مرسيِّة في الأندلس، وهو من أوائل من فصلوا في فلسفة فكرة وحدة الوجود، ومن آرائه وحدة جوهر الأديان ولا يفرق بين الأديان والعبادات الموصلة لله في أيِّ دين، وله مجموعة من النبوءات المتداولة في التاريخ العثماني، أبرزها ما يُدعى بأنه أعطى وصفًا لفاتح القسطنطينية، وحدد سنتها، لذلك يقال بأن سليمًا بنى على قبرة قبةً وجعله مزارًا في الشام.

المرجع:
سعد رستم، الفرق والمذاهب الإسلامية، ط 3 (دمشق: الأوائل للنشر والتوزيع، 20 )

1) إحسان أوغلي وآخرون، الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي (إسطنبول: إرسيكا، 1999).

2) أحمد شيمشيرغل، تاريخ بني عثمان، ترجمة: مهتاب محمد (أبوظبي: ثقافة للنشر والتوزيع، 2016).

3) أوليا جلبي، الرحلة إلى مصر والسودان والحبشة، ترجمة: حسين المصري وآخرون (القاهرة: دار الآفاق العربية، 2006).

4) جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة، ط 3، (بيروت: دار الطليعة، 2006).

5) خليل إينالجيك، تاريخ الدولة العثمانية (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2002).

6) طاشكبري زاده، الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية (بيروت: دار الكتاب العربي، 1975(.

7) عبدالمنعم الحفني، موسوعة الفرق والجماعات والمذاهب الإسلامية (القاهرة: دار الرشاد، 1993).

8) فاتح آقجه، السلطان سليم الأول، ترجمة: أحمد كمال (القاهرة: دار النيل، 2 ).