في ظل تهميش من كانوا قبله
ثقافة الفرس لا تزال تؤمن أن "قورش" أبٌ للإيرانيين
تُعْرَف الإمبراطورية الفارسية بأنها الاسم الذي يطلق على سلسلة من السلالات المتمركزة في إيران الحديثة على مرِّ التاريخ، والتي امتدت لعدة قرون من السادس قبل الميلاد إلى العشرين بعد الميلاد، وأصبحت الإمبراطورية الفارسية الأولى التي أسسها قورش في حوالي سنة (550 قبل الميلاد) تمتد من شبه جزيرة البلقان في أوروبا في الغرب إلى وادي السند شرقًا.
وكانت سلالة الإمبراطورية الأخمينية التي يروج لها مؤرخو الفرس قد استمرت 200 عام قبل أن تسقط في يد الإسكندر المقدوني، وهي الإمبراطورية التي يعترفون بها بينهم على أنها أول إمبراطورية فارسية، على اعتبار أن ما سبقها منذ نهايات القرن الثامن قبل الميلاد لم يكن يحقق للقومية الفارسية النقاء العرقي الذي يطمحون إليه، تأكيدًا على عنصريتهم.
علمًا أن جذور الإمبراطورية الفارسية في عصورها السحيقة كانت نتاج مجموعة قبائل شبه بدوية تعيش على تربية الأغنام والماعز والماشية فوق الهضبة الإيرانية، استطاع قورش من خلال هذا التجمع البدوي التقاط لحظته التاريخية، وتوحيدهم ضمن الأسرة الأخمينية التي تشتت كثيرا قبله، ولأن المؤرخين الفرس لم يعترفوا بفارسية ما قبل الأخمينيين، فإن المملكة الميدية رغم قيامها قبل ذلك على أرض إيران كانت بالنسبة إليهم مجموعة من الغزاة الوافدين، لذلك سعى قورش إلى أن يسيطر على “ميديا” ليتمكن من توحيد البلاد الإيرانية، ثم انتقل إلى بسط سيطرته المطلقة على عواصم الشرق مستفيدًا من الأوضاع المتردية فيها واضطراب الأحوال الداخلية في الدول القديمة المحيطة ببلاده.
احتفى الفرس بالإمبراطورية الأخمينية؛ لأنها حققت لهم تاريخًا من الاستعمار والدموية على حساب شعوبٍ وأمم أخرى.
وبالنسبة للدين والعقيدة الفارسية، فقد تشكّلت ملامحها في عصر الإمبراطورية الفارسية الأولى بواسطة الديانة الزرادشتية، حيث تعد الزرادشتية واحدة من أقدم الديانات في العالم، ولا تزال تُمَارَس اليوم باعتبارها دين أقلية في أجزاء من إيران والهند، وقام زرادشت، الذي عاش على الأرجح قبل عام500 قبل الميلاد بمحاولة قصر العبادة على إله واحد بدلاً عن مجموعة آلهة كما تؤمن ثقافة الفرس التي سبقته.
ومن الواضح أن التشكل الزرادشتي توافق دينيًّا مع قيام الإمبراطورية الأخمينية أو خلالها، لذلك من المنطقي أن نعتبر بأن ثمة حبكة تاريخية تم ترتيبها لتوافق الفكر والتاريخ السياسي لدى الفرس، في عملية مواءمة لصياغة إرث خاص، على الرغم من عدم وجود إثباتات متفقة من المصادر التاريخية، إذ إن الكثير من التفاصيل تعتمد على الأساطير والنظريات.
وأكثر ما يلفت الانتباه أن التركيز على قورش ومملكته الأخمينية من قبل العنصر الفارسي؛ أنها المملكة التي تمددت وتوسعت جغرافيًا على حساب الأمم القريبة منها، ومن ثم فَطَبَعِيٌّ أن تكون هذه الإمبراطورية محل تقدير واحترام الثقافة الأم للفرس، لما حققته من نتائج، بينما لو كانت ظروفها التاريخية بخلاف ذلك لما حظيت بهذا الكم من الاحتفاء الفارسي.
فقورش قدَّم للفرس تاريخًا استعماريًّا توسعيًّا في عصره على حساب جنوب غرب آسيا، ومعظم آسيا الوسطى ومعظم المناطق على حافة الإمبراطورية الهندية، واضعًا إمبراطوريته على خريطة العالم القديم. وخلال حكمه الذي دام 29 عاماً، حارب أعظم دول العصر الكلاسيكي القديم، كالدولة الميدية، والليدية، والبابلية الحديثة، غير أن حظه لم يُسعفه بالتقدم باتجاه مصر، حين مات في معركة ضد المساجيتاي بوادي نهر سير داريا في أغسطس (530 ق.م)، ليخلف قورش ابنه قمبيز، الذي استطاع غزو مصر خلال فترة حكمه القصيرة.
ونظير ما قدمه قورش للفرس من خدمات يعتقدون بأنه قدمها لثقافتهم وتاريخهم، وعلى الرغم من حمام الدماء الذي خلفه في التاريخ القديم ضد كثيرٍ من الشعوب؛ إلا أنه ظل محل تقدير الفرس لذا لا يقال اسمه في ثقافتهم إلا ويُقرن بالكبير أو العظيم، أو فـَزْرَكا في الفارسية القديمة، وفي الفارسية المعاصرة بـُزُرْغ. وتأكيدًا على رمزية قورش لدى الفرس لا يزال الإيرانيون يعتبرونه أبًا لإيران كلها.
لذلك كل المصادر الفارسية تعتبر مقتل قورش حدثًا جللاً في عصره، يؤكد ذلك ما قاله سليم حسن في موسوعة مصر القديمة عن عصر النهضة المصرية ولمحة في تاريخ الإغريق، ما حصل في ملك قورش بعد وفاته:
بعد موت «كورش» خلفه على العرش ابنه لبضع سنين استولى بعدها على صولجان المُلك ملك عظيم يدعى «دارا الأول» الذي كانت إمبراطوريته وقتئذ تشمل مصر، وتمتد شرقًا عبر حدود الهند، والواقع أن الملك «دارا» (521–486.م) قد ربط أطراف إمبراطوريته بشبكة طرق تؤدي إلى «سوس» عاصمة ملكه. فمن مدينة «سرديس» مقر معسكره في غربي ممتلكاته كانت توجد طريق طولها 1500 ميل محروسة عند ممرات الجبال، وعند مصاب الأنهار بجنود فارسية، وكانت السياحة بين المدينتين تستغرق ثلاثة أشهر غير أن الرسائل المستعجلة كانت تنقل من «سوس» وإليها في أسبوع.
كان مقتل كورش حدثا جللا في مسيرة الإمبراطورية الفارسية، نعم قام ابنه بمحاولة لتوحيد البلاد والأمة، لكن الاضطرابات بدأت تدخل إلى مفاصل الحكم حتى جاء الإمبراطور داريوس الذي لقب هو أيضا بـ الكبير، (ويسميه العرب: دارا الأول، واليونان: داريوس الأول عاش في الفترة من (549-486 ق.م)، وحكم خلال (521–486 ق.م).
اندلعت الثورات في كل أنحاء الإمبراطورية بعد موت قمبيز، وكان على داريوس إخضاعها الواحدة تلو الأخرى، ففي بابل أعلن أحد الزعماء الثورة، ونصَّب نفسه ملكاً عليها باسم نبوخذ نصر الثالث، فتوجه داريوس على رأس جيش إلى بابل، وقد لاقى الجيش مصاعب كبيرة في عبور نهر دجلة؛ نظراً لقوة الأسطول البابلي، لكن داريوس قام بهجوم مباغت، فعبر النهر وهزم البابليين الذين لجؤوا إلى داخل مدينتهم وتحصنوا بها، كان يعلم داريوس، أن السيطرة على بابل مفتاحٌ للقضاء على كل الثورات الأخرى، ولذلك ركز اهتمامه لإخضاع المدينة، التي استسلمت في (521 ق.م). وبعد ذلك هاجم داريوس مادي (ميديا)، وهزم جيشها، وقبض على ملكها وأعدمه شنقًا في همذان، كما عهد لبعض قادته في إخماد ثورة بارثيا (خراسان) وكركان، وتم له ذلك.
استطاعت جيوش داريوس أن تخمد ثورة بمصر سنة (519 ق.م)، وأن تحتل تراقيا بجنوب شرقي أوروبا سنة (513 ق.م)، وبعدها بسنوات احتلت القوات الفارسية ما يسمى الآن بجنوبي باكستان، وحكم داريوس إمبراطوريته عن طريق تقسيمها إلى أقاليم كبرى، من بين الأعمال التي قام بها العمال الذين اختارهم داريوس لإدارة هذه الأقاليم، الزيادة في الضرائب المحلية من أجل الخزائن الملكية، ومد داريوس بالجند.
هكذا أخمد داريوس كل الثورات، وتمكن من توحيد إمبراطوريته من جديد، وقد سجل داريوس انتصاراته هذه بالتفصيل في نقش «بهستون» الشهير الذي دون بثلاث لغات، منها الفارسية القديمة والبابلية، تولى داريوس الشاب ذو العشرين عامًا مقاليد الحكم لفترة طويلة، بدأها بتسجيل تاريخ بلاده على عمود ضخم، وكان من إنجازاته إعادة تنظيم الإمبراطورية مثل شق الطرق ورصفها لتسهيل المراسلات البريدية وتلقى الأخبار من جواسيسه بشكل سريع، إضافة إلى التقسيم الإداري لولاياته التي وصلت إلى العشرين بحيث ضم المستوطنات الأيونية إلى ولاية ليديا بآسيا الصغرى. كما سمح لليهود بإتمام بناء الهيكل من جديد في عام (515 ق.م).
وتُفَسَّر علاقة اليهود الوطيدة بالفرس أن قورش قام بتحريرهم من السبي البابلي بعد أن أسقط مملكة البابليين، لذلك كان اليهود ولا يزالون حلفاء بالدرجة الأولى للفرس مهما تم من تمويهات السياسة.
- بادي بدايتي، كورش كبير (تهران: انتشارات دانشكاه، 1335هـ).
- حسن الجاف، موسوعة تاريخ إيران السياسي (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2008).
- سليم حسن، موسوعة مصر القديمة ولمحة في تاريخ الإغريق (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).
- شاهين مكاريوس، تاريخ إيران (القاهرة: مطبعة المقتطف، 1998).
- محمود شبيب، غزو بلاد فارس (بيروت: دار الفتح، د.ت).
- نورهان ناصر، بلاد فارس القديمة والإمبراطورية الفارسية (موقع المرسال، 2021).