حر ًصا على الازدهار الاقتصادي والاستفادة منهم

"العثمانية" استقطبت

يهود الأندلس وأبعدت المسلمين

بعد أن توسعت حدود العثمانيين وتمددت إلى عاصمتهم الجديدة بورصة دخل عدد من أتباع الديانات المختلفة، ومنها اليهودية التي باتت ضمن الأديان التي رعاها العثمانيون؛ إذ سمحوا لهم بإقامة معبدهم، وحين نقلت العاصمة من بورصة إلى أدرنة ازداد عدد اليهود في حدود الدولة. 

ومما يبدو أن اليهود كانوا على تواؤمٍ مع العثمانيين، إذ إن أعدادًا كبيرةً منهم هاجرت إلى مناطق النفوذ العثماني من المناطق المحيطة القريبة من حدودهم، وازدادت هذه العلاقة قوةً بعد أن فُتحت القسطنطينية فصار اليهود جزءًا مهمًّا من تاريخ الدولة العثمانية، فصار توافد اليهود غير مقصورٍ من المناطق المحيطة بالعثمانيين بل جاؤوا من بلدان بعيدة للعيش تحت ظل العثمانيين.

تجاوزوا عن اليهود جرائمهم وعاقبوا المسلمين بالظن والقمع

وأبرز الهجرات اليهودية إلى الدولة العثمانية كانت سنة (1492م)، وهي السنة التي سقطت فيها الأندلس من حكم المسلمين نهائيًّا وانتقلت إلى الإسبان، وجاءت الموجة الثانية من المهاجرين اليهود من أرض الأندلس سنة (1496م) من البرتغال، إذ عانى اليهود ما عاناه المسلمون من اضطهادٍ وتعرضٍ لمحاكم التفتيش والحرق. 

ومما يُلحظ هنا أن اليهود الذين توافدوا على حدود الدولة العثمانية بعد سقوط الأندلس لم يأتوا فقط من جراء الاضطهاد الإسباني، بل تشجع يهود الدول الأوروبية الآخرون للهجرة إلى الدولة العثمانية بعد أن رأوا ذلك الترحيب العثماني باليهود من دون فرض قيود أو شروط تذكر.

ومما يلفت الانتباه أن السلطان بايزيد الثاني الذي قابل وفود المسلمين الأندلسيين بقلبٍ بارد وعدم مبالاة، هو نفسه الذي كلف (كمال رئيس) سنة (1492م) بقيادة أسطول عثماني مخصص لإنقاذ اليهود من الفناء في الأندلس، وقد أشير تجاوزًا أن الإنقاذ لليهود والمسلمين، بينما استفاد من هذا الأسطول المنقَذ اليهود وحدهم، ولم يُذكر أن حاول هذا الأسطول الوصول إلى الشواطئ محاربًا لإنقاذ المسلمين، إذ لم يكن دوره سوى النقل والترحيل.

والرواية العثمانية تصور هذا الأسطول على أنه أسطولٌ محاربٌ، بينما أنه بحسب العلاقة المبنية على المصلحة في أوروبا مع العثمانيين لا يمكن أن تؤيد مسألة محاربة أسطول العثمانيين للإسبان، بل الأكيد أنه كان بعلم الإسبان، ونقل من خلاله اليهود والمسلمين الفارين من العذاب والتطهير والتنصير.

حرص العثمانيون على اليهود أكثر من حرصهم على المسلمين، إذ زجوا مسلمي الأندلس الفارين في المغرب العربي لإعادة تدوير جهودهم في تثبيت الحكم العثماني في الأندلس بعيدًا عن حلم العودة للوطن والأرض الأندلسية، بينما استأثر العثمانيون باليهود في أراضيهم: سالونيك وأدرنة وإزمير؛ لأنهم أهل تجارةٍ واقتصاد ومعرفة وعلوم، فكانت استفادتهم بالقرب منهم أكبر بكثير من الاستفادة من بكاءات المسلمين الفارين، الذين لم يكن همهم سوى الانتقام والعودة إلى أرضهم.

وفي الوقت الذي زج به العثمانيون مسلمي الأندلس في حروب وتصفيات وحسابات سياسية؛ كانوا قد منحوا اليهود في المقابل الامتيازات والمناصب العليا، الأمر الذي استثار ضغينة النصارى المماثلين لهم بالقرب من العثمانيين من الروم والأرمن؛ لأنهم دخلوا في تنافس شرس مع اليهود بالتقرب للبلاط العثماني.

بل إن العثمانيين كانوا أكثر تسامحًا وتناغمًا مع اليهود، ففي الوقت الذي كانوا يتغاضون فيه عن تجاوزاتهم وأخطائهم؛ كانوا يمارسون أقسى أنواع الظلم والجور والتشفي مع المسلمين من العرب وغيرهم، ومما يؤكد ذلك تغاضيهم عن الحركة التي قام بها سبتاي سيفي اليهودي سنة (1648م)، الذي ادعى أنه المسيح، وأعلن نبوته من فلسطين، واحتوته الدولة بعد أن أعلن إسلامه ثم ارتد ثم أعلن إسلامه مرةً أخرى، وفي الوقت نفسه أسس ليهود الدونمة (بمعنى العائدين)، ومن حركته صار من ضمن مسلمي الأتراك ممن ينتمون لطائفة الدونمة اليهود بأسماء إسلامية وهوية إسلامية، ومن خلالها كانوا يمارسون كل أنشطتهم وسيطرتهم على العثمانيين مقابل ما كانوا يمنحونهم إياه من صلاحيات ومناصب عالية.

وجميع يهود الدونمة في الدولة العثمانية هم من يهود الأندلس الذين احتوتهم الدولة العثمانية، وبالمقارنة بين موقف العثمانيين تجاه الأندلس؛ نجد أنهم قاموا باحتواء اليهود لأنهم يحققون لهم مصالح مختلفة، بينما أهملوا المسلمين الأندلسيين ومن استقبلوهم وظفوهم في خدمة مصالحهم الاستعمارية في المغرب العربي، ما يعني أن الحسابات العثمانية كانت تُغَلِّب مصلحة الدولة على الدين وكل ما يتعارض معها مهما كانت أبعاده العقدية أو الدينية.

1) ستانفورد ج شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية (القاهرة: دار البشير، 2015). 

2) جعفر حسن، فرقة الدونمة بين اليهودية والإسلام ، ط3 (بيروت: مؤسسة الفجر ، 1988).

3) أحمد النعيمي ، الأقلية اليهودية والدولة العثمانية (بغداد: دار الشؤون الثقافية، 1990).

4) إبراهيم العلاف، “دور الماسونية في الحياة الاجتماعية والسياسية التركية المعاصرة”، مجلة دراسات اجتماعية ، بيت الحكمة ، بغداد ، العددان (3،4)، (1999-2000).