حفاظًا على المكتسبات التي حققها في مرحلة توحيد الوطن
وقف المؤسس على الحياد خلال الحرب العالمية الأولى رغم محاولات العثمانيين إقحامه فيها
بعد استرداد الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود الأحساء وتطهيرها من الأتراك عام (1913)، اتجه إلى التعامل معهم بدهاء وحنكة سياسية، وذلك بعدما فرض واقعًا سياسيًّا جديدًا في الجزيرة العربية، وفي محاولته تثبيت قواعد ملكه في جزء مهم من أراضي الدولة السعودية في أدوارها المختلفة، وحفظ حدودها وإخراج المستعمر البغيض منها وبأسلوب سياسي ماهر، فوقع الاتفاقيات التي تحافظ على أمن حدود دولته ومدنها وموانئها.
كانت المفاوضات لتسوية الخلافات بين الحكومة البريطانية والعثمانية بشأن تحديد الحدود بينهما قد طالت كثيرًا، ولم تصل إلى نتائج مرضية لكلا الطرفين، وكان يدرك الملك عبدالعزيز أن ساحل الخليج العربي قد ارتبطت إماراته العربية بمعاهدات مع بريطانيا، و يدرك تمامًا قوة تلك الدولة وأهمية تأمين جانبه على حدودها من خلال الموازنة في علاقته بها، كما عمل الملك عبدالعزيز لنزع أي علاقة للترك بأرض الوطن الطامح، ففي أحد رسائله يؤكد بقوله:” والترك عاجل أو آجل وبحول الله وقوته أننا أحرص الناس على ذهاب الترك وإبعادهم من طرفنا..”، فالملك عبد العزيز رغم انشغالاته في توحيد بقية أجزاء الجزيرة العربية وعلى وجه الخصوص أجزاء نجد الشمالية؛ اندفع باستراتيجية واضحة هدفها تطهير الأراضي السعودية من النفوذ العثماني.
لقد كان الملك عبد العزيز مستوعبًا لما يدور حوله من أوضاع سياسية في العالم من خلال متابعة مستمرة أولاً بأول، لذا أدرك أن الدولة العثمانية دولة مشرفة على الانهيار وأن القوى العظمي قد تمكنت منها في شتى النواحي الداخلية والخارجية، ويعدُّ الرهان عليها خاسرًا، ذلك أنها دولة تتهاوى وآيلة للسقوط، لذا آثر الوقوف على الحياد أثناء اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914)، وانشغل بالتركيز على هدفه الرئيس في توحيد أراضيه السعودية، ولم يُلقِ بالاً للمحاولات العثمانية المستثيرة للعاطفة الدينية وتجييش الشعوب معها، لأنه يعي سياسة الحكم التركي الذي قام بالتجييش وغزو الدولتين السعودية الأولى والثانية.
ومن جهة أخرى كانت بريطانيا تمثل أهميةً في التوازنات العالمية، خاصة أن محمياتها في الخليج العربي على الحدود الشرقية السعودية، وبناءً عليه كان لزامًا توقيع معاهدة واتفاقية بين الملك عبدالعزيز وبريطانيا بحكم الحدود الشرقية بالدرجة الأولى. ومن هنا بدأت المفاوضات بين الطرفين حول هذا الموضوع حتى انتهى الأمر بتوقيع معاهدة دارين في 26 ديسمبر من عام (1915)، التي جاء ضمن أهم بنودها الاعتراف البريطاني باستقلال حدود الملك عبدالعزيز التي توصل إليها خلال فترة المعاهدة، كذلك ركزت على الحفاظ على حدود آمنة مع أراضي إمارات الخليج العربية التي كانت تحت الحماية البريطانية. وكان الكسب الكبير من هذه المعاهدة الاعتراف الدولي بالدولة السعودية التي كان يقودها المؤسس، لتصبح لاعبًا رئيسًا في توازنات القوى في المنطقة بالدرجة الأولى.
حين فرضت بريطانيا حمايتها على إمارات الخليج العربي وقع الملك عبدالعزيز معها "دارين" حفاظًا على حدوده وموانئه
ظل الملك عبدالعزيز على حياده خلال الحرب العالمية الأولى، فاستكمل مشروعه الوطني وحافظ على أراضيه بسياسة متأنية واستراتيجية حقيقية تحسب ألف حساب للعواقب قبل وقوعها، وقد نص بالقول في أحد رسائله:” قد بلغ لحضرتكم معاهداتنا المنعقدة التي أمضيت مع الدولة البريطانية، والمقصد منها مصالح الطرفين والمراعاة للحقوق الجارية.. والحرص على منع الأمور المكدرة والمخالفة على رعايا الطرفين واستقرار الأمنية..” فتحقق حلمه بالأمن والأمان والاستقرار وحسن الجوار مع المحيط العربي، وأصبحت الدولة العثمانية خارج حساباته السياسية والمستقبلية، فنهض الملك عبد العزيز لمرحلة مهمة وهي مرحلة من البناء وتأسيس الكيان العربي السعودي الكبير.
- نص معاهدة دارين في الأرشيف البريطاني ((IOR/R/15/2/32, p325.
- عبد العزيز عبد الغني إبراهيم، أمراء وغزاة قصة الحدود والسيادة الاقليمية في الخليج دراسة وثائقية، ط2 (بيروت: دار الساقي، 1991).
- عبد الله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية، مكتبة العبيكان، الرياض، 1995م.
- محمد العيدروس، تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر، ط2 (القاهرة: عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، 1998).
- نجدة صفوة، الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية (لندن: دار الساقي، 1996).