في مذكرات خير الدين بربروسا
للسبب نفسه...
قتل العرب وعفى عن خونة التُّرك
تضاعفت قوة البحرية العثمانية بعد الجهود التي بذلها البحارة المهرة الذين تربوا على القرصنة، ففي القرن الخامس عشر الميلادي كان القراصنة الأتراك يقومون بنشاطاتهم على سواحل أفريقيا الشمالية، وقسم منهم كانوا يعملون لحسابهم الخاص والآخر لصالح العثمانيين بهدف الحصول على الغنائم والأسلاب، ومنهم خير الدين “بربروسا” أحد أبرز قراصنة البحر، الذي كان له دور في الغزوات البحرية في البحر الأبيض المتوسط ومهاجمة السفن الأوربية وإرعابها خلال القرن السادس عشر الميلادي، بل أسهم في تسهيل وصول العثمانيين لاحتلال أجزاء من شمال أفريقيا كتونس والجزائر وغيرها. بعدما عينه سليمان القانوني قائدًا عاماً للبحرية العثمانية.
خلّف “بربروسا” وراءه مذكرات شخصية لتلك المرحلة التاريخية، التي تضمنت أحداثًا واقعية وحوادث فيها من الغرائب والعجائب والمبالغات التي لا يقبلها العقل، فمن خلال إطلالة سريعة على تلك المذكرات تتوارد الكثير من التساؤلات الجديرة بالمناقشة والتعليق لفهم حقيقة الموقف في فترة القرصنة العثمانية.
عنصريته التركية أملت عليه أن يحتقر العرب بالسب والشتائم.
نُشرت مذكرات “بربروسا” لأول مرة باللغة العربية سنة 2010م، ترجمها من اللغة التركية إلى العربية محمد دراج، في (طبعتها الأولى، الأصالة للنشر والتوزيع، الجزائر). والنسخة التي اعتمدها هي إحدى النسخ المخطوطة المنتشرة في مكتبات استانبول، كما أن هناك نسخة أخرى في الفاتيكان تعد هي الأقدم منها، وفي برلين، وباريس، ومدريد، ولندن، والقاهرة إضافة إلى تلك النسخ المتوفرة في الجزائر. وأما النسخة الأصلية فهي مفقودة؟.
ومن هنا يكتنف الغموض حقيقة هذه المذكرات مع غياب الأصل عن أعين الباحثين والمهتمين. وأشار أحد الباحثين الجزائريين إلى وجود نسخة في المكتبة العامة في الجزائر العاصمة تحت عنوان “خبر قدوم عروج إلى الجزائر وأخيه خير الدين” وقد تُرجمت من اللغة العثمانية إلى العربية خلال القرن الثامن عشر الميلادي، وبأمر من مفتي مدينة الجزائر آنذاك ابن علي محمد العلج (ت: 1755م)، باعتبارها لمؤلف مجهول، وعند مطابقتها مع مذكرات “بربروسا” وُجد تطابق في موضوع الكتاب واختلاف كبير في ألفاظ النص. وبذا تكون الترجمة للعربية في القرن الثامن عشر الميلادي هي الأقدم نسبياً مع ما فيها من اختلافات في النصوص.
وأمام ما ذكرنا من تعدد النسخ التي دونت لهذه المذكرات وترجمتها بلغات أوروبية مختلفة، هل ستكون النسخة المخطوطة أو حتى المترجمة على ما هي عليه من أهمية للمؤرخ والباحث؟ وقد اختلفت مصطلحاتها وزِيد أو أُنقص في نصوصها واختلفت معها صياغاتها ومدلولاتها في التدوين والترجمة، والتي هي في الأساس لم تُكتب من قبل “بربروسا”، مما يفقدها قيمتها التاريخية والعلمية وقد تصبح معلوماتها مثارًا للشكوك وعدم القطع أو الجزم بما نسب فيها من أحداث ووقائع تاريخية، ناهيك عن أن المذكرات كتبت بأسلوب قصصي وملحمي ملفت للانتباه.
"المذكرات"... دعاية سياسية لـ "القانوني" كُتبت بأمر ٍ سُلطاني.
أظهرت المذكرات حب “بربروسا” للسلطان العثماني وولاءه المطلق بصورة مُبالغ فيها، وعلى النقيض من ذلك أظهرت المذكرات بغضه للعرب بصورة واضحة للعيان، ففي تعامله مع الجزائريين الثائرين ضده استعمل ألفاظاً فيها من العنصرية المقيتة كقوله:” ابن الكلب، البدو، الأعراب” وغيرها من الأوصاف، وبغض النظر عن الدواعي والأسباب التي دعته لذلك فلا يليق برجل اشتهر على أنه المجاهد والبحار العظيم (القرصان) أن يصدر منه مثل ذلك السقوط في العبارات، أو القدح في العرب والانتقاص منهم بوصفهم بقوله: “من العرب والبربر والأندلسيين غير أنهم لم يكونوا يعرفون فنون القتال مثل الأتراك”،وأرى أن ذلك انتصارًا لعنصريته التركية، ولوحظ شدته على العرب في مواطن عديدة، ففي إحدى نصوص المذكرات يقول: “وكان على رأس الثائرين الذين وقعوا في الأسر شيخ مدينة الجزائر، أمرت بإعدامه وقطع جسده اللعين إلى أربع قطع، وتعليق كل منها على باب من أبواب المدينة ليكون عبرة لغيره”. وهل يصح مثل هذا القول والفعل ممن يوصف بكونه مجاهدًا كبيرًا؟ أم هي أخلاق القراصنة؟! . ذكر أنه استشار علماء الجزائر الكبار بشأن ماذا يعمل مع 185 أسيرًا جزائريًا لديه، فطلب العلماء منه العفو بأن الكثير منهم كان له الفضل في محاربة الإسبان. إلا أنه استشار البحارة الأتراك فطلبوا “من الحزم أن تضرب أعناقهم ليكونوا عبرة لغيرهم”. ثم قال “فأمرت بضرب أعناق زعماء التمرد”.
في المقابل نجده وبلسانه يعفو عن الخونة الأتراك كما يسميهم هو والذين وقفوا مع ابن القاضي ضده وتمردوا على السلطان، والسبب في ذلك “أن فيهم من قدم خدمات كبيرة لنا وفيهم من يعود إليه الفضل في القضاء على الكثير من رؤوس الإسبان والاستيلاء على سفنهم”. وهنا تظهر بوضوح ازدواجية المعايير في التعامل مع قومه من الأتراك الخونة وهي نفس الأسباب التي دفعته لإعدام 185 جزائريًا وبنفس الأسباب التي جعلته يرفض طلب العفو الذي قدمه علماء الجزائر باعتبارهم أصحاب السبق في محاربة الإسبان ولم يأخذ برأيهم وأعدمهم، هو نفس السبب الذي جعله يعفو عن الخونة الأتراك لأسبقيتهم في محاربة الإسبان من قبل.
إن هذه المذكرات رغم ما فيها من أحداث ووقائع إلا أنها لا تخلو من تجاوزات وسلوكيات غير مقبولة ممن يدعي أنه أنقذ الآلاف من مسلمي الأندلس من الحرب التي شنتها عليهم إسبانيا، وذلك من باب الرحمة والأخوة في الدين، أم هي مصالح خاصة لم تفصح عنها المذكرات الشخصية . وكما يقال في المثل “من لسانك ندينك” بل من مذكراتك ندينك .
1) أبو القاسم سعد الله، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ج2 ( الجزائر، دار البصائر للنشر، 2007م).
2) أكمل الدين إحسان أوغلي، الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة : صالح سعداوي، ج1( استنبول، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، 1999م).
3) بجوي إبراهيم أفندي، تاريخ بجوي إبراهيم أفندي، “التاريخ السياسي والعسكري للدولة العثمانية” ترجمة: ناصر عبد الرحيم حسين، ج1 (القاهرة، المركز القومي للترجمة ، 2016م) .
4) مذكرات خير الدين بربروس” ترجمة: محمد دراج (الجزائر، شركة الأصالة للنشر والتوزيع، 2010م).
5) محمد رزوق، الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 16-17م ، ط 3 ( الدار البيضاء، إفريقيا الشرق ، 1998م).
6) لعباسي محمد ” التعريف بمخطوط: خبر قدوم عروج إلى الجزائر وأخيه خير الدين لمؤلفه خير الدين بربروس ” (موريتانيا، جامعة نواكشط، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ع8، 2016م).