في أول خطاب كراهية فارسي:
كسرى: "لم أرَ للعربِ شيئًا من خِصال الخير"
سيطرت عقلية الاستعلاء والعداء الفارسي للعرب طويلاً، واستحوذت على تفكيرهم، ووجدوا في العرب منافسًا يصعب السيطرة عليه، لذلك بنوا استراتيجيتهم على محاولة إخضاع العرب بالاحتلال المباشر أو عن طريق العملاء، ومن خلال فرض الجزية على العرب لإنهاكهم اقتصاديًا، ويؤيد ذلك ما أورده ابن الأثير عما فعَله كسرى أنوشروان في الخراج والجند، مخاطبًا أعوانه: “والزِموا الناسَ الجزية ما خلا العظماء وأهل البيوتات والجند والمرازبة والكتَّاب، ومَن في خدمة المَلِك، كل إنسان على قدْره، اثني عشر درهمًا، وثمانية دراهم، وستة دراهم، وأربعة دراهم”.
لم يكن ينظر الفرس للعرب باعتبارهم جيران، بل نظروا إليهم نظرة الأعداء، وأنَّهم أقل شأنًا منهم، وعندما هُزموا في معركتي ذي قار والقادسية جُنَّ جنونهم، واتهموا العرب المسلمين، باستهداف التراث الفارسي في القرنين الأولين بعد ظهور الإسلام وفتح بلاد فارس، وسموها بعصر الصمت. وهذا ما يُثبت أن الوجدان الفارسي يحتقر ويكره ويبغض العرب، بالرغم من أن الإنسان العربي هو من حمل الإسلام إليه، وإلا لكان الفارسي يعبد النيران في بوادي فارس إلى اليوم.
ومن نصٍ قديم تتكشف لنا العقلية الفارسية، وفيه يُذكر صراحةً استخدام الجزية في السيطرة على الشعوب الأخرى، وهو نص يعود إلى الملك الفارسي “دارا”: “أنا دارا الملك العظيم – ملك الملوك – ملك الأراضي التي تعمرها الشعوب كلها، ملك هذه الأرض العظيمة منذ أمد بعيد — ابن ويشتاسب الكياني — فارسي ابن فارسي، آري من نسل آري”، ويقول: “بفضل أهورا مزدا هذه هي الأراضي التي أملكها وراء فارس، التي أسيطر عليها والتي أدت الجزية إليَّ والتي فعلت ما أمرتها به والتي فيها تطاع شريعتي: مديا – سوسيانا – بارتيا – هريفا – هرات، بكتريا (بلخ)، سغد، خوارزم (خيوه) … الهند وبابل وآشور وبلاد العرب ومصر وأرمينيا، وكمباذوقيا وأسبارتا”، كذلك “حينما رأى أهورا مزدا الأرض ائتمنني عليها — جعلني ملكا، بحمد أهورا مزدا قد نظمت أحوالها وما أمرت به أطيع كما أردت، إذا قلت في نفسك: كم عدد الأرضين التي حكمها الملك دارا فانظر إلى هذه الصورة: إنهم يحملوك عرشي فعسى أن تعرفهم، ستعلم أن رماح رجال أرس قد بلغت مدىً بعيدا، وستعلم إذًا أن الفرس أضرموا الحرب نائين عن فارس”.
عقدة الخوف بين ضفتي الخليج العربي
يعيد أحد الأبحاث المنشورة في مجلة آداب الكوفة تطـور العلاقات بين الفـرس والعـرب إلى زمن الفارسي ” كورش”، ويصفها بأنها مليئة بالصلات، مشيرًا إلى أنه في سنة 240م أسس الفرس إمارة الحيرة على نهر الفرات، قريبًا من العرب أصحاب الأرض في العراق وشمال الجزيرة العربية، فجاء كثير من وفود العرب إلى بلاط أمراء الحيرة واطلعوا على الثقافة الفارسية ونقلوها إلى بلادهم. كما كانت هناك صلات وثيقة بين الفرس والعرب في البحرين وعمان واليمن.
إذن العلاقة بين الفرس والعرب قديمة، تعود إلى قرون متقدمة جدًّا منذ ما قبل الميلاد، سيطرت عليها عقدة الخوف الفارسية من تطور العرب وتقدمهم، علاقة تراوحت بين عسكرية وثقافية واقتصادية، تعمد الفرس ألا تحكمها النِّدِّية والجيرة، بل الاستعلاء ومحاولة فرض الوصاية والتَّبَعِيَّة على العرب؛ كونهم -في نظرهم- أقل مكانة منهم؛ ولأن هدف فارس كان إعاقة العرب وتكبيل تقدمهم، وهو ما اتضح بعد القرن الثاني الهجري، بعدما تمكن الفرس من السيطرة على الدولة العباسية وأحكموا قبضتهم، ليتحول العرب إلى رهينة للخرافات الفارسية، متعمدين الرفع من مكانة العرق الفارسي والحط من العرب، ولهذا كله تفشت ظاهرة الشعوبية التي استهدفت العنصر العربي، ولعل عصر التفكك العباسي والانحطاط الذي تلاه كان بسبب تلك الفاشية الفارسية وأثرها المُعِيق على الثقافة والتطور العربي.
التاريخ لا يكذب
يؤكد الباحث شاكر مجيد الشطري في كتابه تأريخ الإمبراطورية الفارسية أن سابور هو من بدأ أولى حروبه ضد العرب في أرض السواد أو العراق فأهلكهم قتلاً وتعذيبًا، وتعمد أذاهم وإخراجهم من بلادهم، خاصة قبيلة إياد، على هذا الوضع الحاقد تمكن سابور من الفتك بالعرب، وقتل من إياد وتميم خَلْقًا كثيرًا، وشنت جيوشه حملات إبادة ففر بعضهم إلى الروم وبعضهم إلى شرق الجزيرة العربية، ثم عاد إلى ديار بكر وفتك بهم أيضًا، ثم إلى اليمامة متعمقًا داخل الجزيرة العربية، ومن يخالفه يخلع أكتافه، لذلك سُمي بذي الأكتاف، ويقال إنه كان يصلبهم من أكتافهم على الجبال.
الفرس... لو لم يفتح العرب ديارهم لظلوا على عبادة النار حتى اليوم.
كما يقول الدكتور جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: “يذكر أهل الأخبار أن سابور إنما لقب بذي الأكتاف؛ لأنه خلع أكتاف العرب”، وهو لا يستبعد خلع سابور لأكتاف العرب، فقد كان مثل هذا التعذيب القاسي المؤلم معروفًا في تلك الأيام.
وفي كتاب العرب قبل الإسلام وأحوالهم السياسية والدينية وأهم مظاهر حضارتهم، يقول المؤلف محمود عرفة محمود: “كانت قوافل الفرس المارة بالجزيرة العربية إلى بلاد الشام، القادمة من مصر إلى الصين سببًا في ثراء زعماء القبائل الذين يعملون من أجل خدمتها وراحتها وحراستها حتى تصل آمنة إلى أهدافها، فكانت لطائم الفرس ترسل إلى الحيرة في حراسة رجال من الفرس ثم يستلم بنو تميم هذه المهمة في داخل أرجاء الجزيرة، وتظل في تقدمها حتى تخرج عن دائرة حمايتها إلى قبيلة أخرى وهكذا نظير أجر معلوم”.
العرب في نظر كسرى
في حوارٍ نقله المؤرخون بين النعمان بن المنذر الملك العربي وبين كسرى، وصف الملك الفارسي العرب قائلاً: “يا نعمان لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم ونظرت في حالة من يقدم علي من وفود الأمم فوجدت للروم حظًا في اجتماع ألفتها وعظم سلطانها وكثرة مدائنها ووثيق بنيانها، وأن لها دينًا يبين حلالها وحرامها ويرد سفيهها ويقيم جاهلها، ورأيت للهند نحوًا من ذلك في حكمتها وطِبِّها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها وعجيب صناعتها وطيب أشجارها وكثرة عددها، وكذلك الصين في اجتماعها وكثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد وأن لها ملكًا يجمعها، ولم أر للعرب شيئًا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا ولا حزم ولا قوة، ومع أن مما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطير الحائرة يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة، قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذاتها، فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها، وإن قرى أحدهم ضيفًا عدها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدها غنيمة، تنطق بذلك أشعارهم وتفتخر بذلك رجالهم، ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس”.
- جواد علي، المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط4 (بيروت: دار الساقي، 2001).
- شاكر الشطري، تأريخ الإمبراطورية الفارسية القديمة (بغداد: مكتبة العميد، 2015).
- عبدالوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).