في مذكرات رئيس الآغوات: زوجة مراد الخامس استعانت بعشيقها لرد اعتبارها
الانتقام داخل القصر العثماني!
لم يكن المؤرخون على خطأ حين اعتبروا مذكرات خير الدين آغا، رئيس الآغاوات في عصر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1876-1909م)، بمنزلة كنز ثمين ووثيقة تاريخية فاصلة.
فالمذكرات لم تكشف فقط ما خفي عن أعين الذين حاولوا فك طلاسم القصور العثمانية التي أحاطها سلاطين الترك بالسرية والغموض، وقتلوا كل من حاول أن يعرف شيئًا، لكنها مذكرات رصدت ما خلف الأبواب الموصدة من قصص غرام بين سلاطين الترك وبعض الجواري، بل كشفت أن إحدى القصص كادت أن تتسبب في اغتيال السلطان مراد الخامس وزلزلت البيت العثماني بالكامل.
ويروي لنا خير الدين آغا، الحكاية من أولها، فيقول بدأت المؤامرة في عهد السلطان عبد العزيز الأول، الذي امتد حكمه من سنة 1830 حتى 1876، وكان ابنه الأمير مراد الذي سيخْلُفه سلطانًا من بعده وهو مراد الخامس.
أما تفاصيل المؤامرة فتعود إلى أن الأمير مراد كان مولعًا بالنساء والرقص الغربي، وهو ما جعله دائم التردد على ملهى ـ”أوريان كلوب” أحد الملاهي الليلية في ذلك الوقت ، و التقى هناك بامرأة بلجيكية تُدعى نيلي هوبكنس، وهي من العاملات في السفارة البلجيكية وتعمل في مهنة الصحافة، وكانت على جانب كبير من الجمال والجاذبية.
ما حكاية "البلجيكية" التي جعلت مراد الخامس يترك زوجته؟
وكعادة آل عثمان، لهث الأمير وراء تلك المرأة التي أوقعته في شباكها وخرج الأمر عن طي الكتمان فتبادلته الألسنة وبات حديث الناس العلاقة الجديدة بين الأمير العثماني والفتاة الأجنبية، وهو ما وصل في النهاية إلى آذان “برتو سلطان” زوجة الأمير مراد في ذلك الوقت.
ولم تكن الزوجة أفضل من زوجها، وكما تقول الحكمة العربية “الطيور على أشكالها تقع”. فتقدمت آنذاك برتو سلطان في البداية بالتماس إلى السلطان عبد العزيز لكبح جماح ابنه، لكنه لم يعبأ بهذا الالتماس، خاصة أن السلطان عبد العزيز الأول لم يكنّ حبًا لابنه الأمير مراد بل – كما يروي خير الدين آغا- إنه رغب في إذلال ابنه ليتمكن من الحيلولة دون وصوله إلى العرش.
هذا الرفض من قبل السلطان عبد العزيز، دفع برتو سلطان، إلى الاستعانة بعشيقها القديم، وهو حسن الجركسي، الضابط المرموق بالحرس العثماني، وقد أحب هذا الرجل برتو سلطان قبل زواجها من الأمير مراد، لكنها رفضته.
وكانت فكرة برتو سلطان التخلص من عشيقة زوجها، بأن يقوم حسن الجركسي بإيقاع تلك الفتاة في حبه لتهجر الأمير مراد، وبالفعل استدعت أحد الآغاوات وطلبت منه أن يدعو حسن بك رغم أن الاختلاط بالرجال الغرباء محظور على نساء القصر وقد يتعرض المخالف للقوانين للقتل.
لكن برتو سلطان، لم تكترث وأدارت خيوط المؤامرة من وراء السلطان العثماني عبد العزيز، وزوجها الأمير مراد، وبالفعل قابلته في منتصف الليل مستخدمة أرخص الحيل النسائية لإقناعه، فتدللت عليه ووعدته بما يريد إن تحقق طلبها، وكانت برتو سلطان تُدرك أن حسن الجركسي لا يريد غيرها.
باتت الكرة الآن في ملعب حسن الجركسي، يعلم أنه يتحدى السلطان العثماني عبد العزيز، ويُدرك أنه يطمع في زوجة الأمير مراد، لكنه تجاهل كل ذلك من أجل الغنيمة الكبرى ونيل برتو سلطان، تلك التصرفات تُعطي صورة أيضًا عن أنواع الرجال الذين كان يعتمد العثمانيون عليهم في شؤون الحكم والجيش.
بدأ حسن الجركسي في رسم خطته، فارتاد نادي “أوريان كلوب” ولفت نظره جمال نيلي هوبكنس، واستطاع أن يوقعها في حبه حتى غادرت معه القصر الكبير الذي أعدّه لها الأمير مراد.
جن جنون الأمير مراد حين عرف أن الفتاة تركته، بات لا يستطيع قضاء يوم دون أن يراها تاركًا كل ما خُوِّل إليه من أمور الحكم وأرسل جواسيسه لمعرفة حقيقة هذا الهجر، حتى عرف أنها تُسَاكن حسن بك الجركسي وهنا وقع الأمير مراد في حيرة كبيرة؛ لأنه يُدرك أي مكانة يبلغها حسن الجركسي عند والده السلطان عبد العزيز، وحتى حين عرف الأخير بالأمر سرّه ذلك بعد أن تفشت سيرة الأمير مراد والفتاة الأجنبية وبدأت تنال من هيبة آل عثمان، فما كان من السلطان عبد العزيز إلا أن يمنح لقب باشا لحسن الجركسي، كدلالة على رضاه وفرحه بما فعل.
لم يستسلم الأمير مراد لتلك النتيجة، أما قصر الحكم فلم يعد يشغله إلا قصة الأمير والعشيقة، فالجواري يتحدثن، والسلطان العثماني عبد العزيز مشغول بمتابعة ولده، والأمير مراد يبحث عن الانتقام، أما الرعية والقرارات المهمة وحياة الناس فلا تساوي شيئًا أمام تلك الرغبات الدنيئة.
وجاء أول تحرك للأمير مراد باستدعاء ثلاثة من المقربين إليه وفوضهم للانتقام من حسن الجركسي الذي أصبح باشا، أما الجركسي نفسه فقد حاول الاتصال مرة ثانية ببرتو سلطان لكي تمكّنه من نفسها كما وعدته، لكنها تخلصت منه وأخبرته عن طريق مندوب أنه أخذ المكافأة بمنحه لقب الباشاوية ولن تقدم له أكثر من ذلك.
وحين تلقى حسن الجركسي هذا الرد هدد برتو سلطان بكشف كل شيء إن لم تقبل الاجتماع به، وسيعيد الفتاة البلجيكية إلى زوجها، وكان من يحمل الرسائل بينهما بهرام آغا، ولم تجد برتو سلطان مفرًّا من المقابلة وأبلغت حسن باشا لكي يعد العدة دون أن يشعر بها أحد.
وكلصوص الليل تخفت برتو سلطان، لتقابل عشيقها في بيته، وهو الوقت الذي صادف تحرك الرجال الثلاثة الذين أمرهم الأمير مراد بالانتقام من حسن الجركسي وعشيقته.
كان حسن باشا يستعد لقضاء سهرة عمره، هيأ كل شيء وصرف الخدم، وفي نفس التوقيت كان جواسيس الأمير مراد يترقبون وصول الفتاة البلجيكية نيلي هوبكنس لينقضوا عليها، وحين وصلت عربة السلطانة برتو سلطان يقودها بهرام آغا، وجد الجواسيس عربة مغلقة بها امرأة فظنوها الفتاة البلجيكية فوثبوا على بهرام أغا وقتلوه، وجرحوا برتو سلطان جرحًا غائرًا وحاولوا جر العربة لكن الحظ خانهم حين وقع أحد الجوادين فامتنع سير العربة وتعالى صراخ برتو سلطان، فشعر الجواسيس بأن أمرهم انكشف وخافوا أن يداهمهم حسن باشا بخدمه، فحاولوا الهروب.
جواسيس السلطان قتلوا زوجته خطأً بدلاً عن العشيقة.
أما حسن باشا فحين سمع هذا الصراخ أسرع ليُفَاجَأ بمشهد رجال يهاجمون حبيبته وحاول مطاردتهم لكنهم هربوا، فانشغل بحال برتو سلطان التي وجدها فاقدة الوعي، فحملها على العربة وسار بها لعيادة الدكتور حسن عوني، من أطباء القصر السلطاني، واختلق حجة أن مجموعة من المجرمين هاجموا إحدى أميرات البيت المالك وصادف مروره من هناك فهرول إلى إنقاذها لكنها في حالة احتضار.
لكن الطبيب حسن عوني ما إن أبصرها حتى عرف أنها زوجة الأمير مراد فزادت دهشته وحاول إنقاذها لكن لم يكن هناك فائدة وقبل موتها انتفضت لتقول “حسن باشا لماذا قتلتني” وكانت تقصد الجركسي الذي ظنّت أنه من أرسل إليها هؤلاء الرجال انتقامًا من عدم الوفاء بعهدها.
سمع الطبيب حسن عوني تلك الكلمات الوحيدة التي ماتت بعدها برتو سلطان، أما حسن الجركسي حين رأى وفاة حبيبته لم يستطع التحدث بكلمة وبعد محاولات لدفعه للحديث قال: لم أقصد الأميرة بل زوجها، وظننته في العربة فهاجمتها وقد آثر ألا يلطخ سمعتها في مقابل إلصاق تلك التهمة بنفسه، وهي تهمة عقوبتها الشنق.
وأكمل حسن الجركسي أنه أراد قتل الأمير مراد لأنه حرمه من عشيقته وكان يقصد الفتاة البلجيكية نيللي هوبكنسي، ليتم احتجازه، وجاء السلطان العثماني عبد العزيز مهرولًا لمعرفة تلك المؤامرة التي هددت أركان الحكم العثماني، ووصلت إلى حد محاولة اغتيال أمير عثماني سيصبح بعد سنوات قليلة سلطانًا وحاكمًا على البلاد، واعترف حسن الجركسي للسلطان عبد العزيز بأنه حاول قتل مراد بسبب الفتاة البلجيكية لكنه لا يتآمر على آل عثمان.
وأمام تلك الفضيحة أمر السلطان العثماني عبد العزيز بكتمان كل ما حدث واستدعى اسماعيل شوقي باشا أحد قادته وأمره بالتخلص من حسن باشا وقد نفذ هذا الأمر وقتل الرجل، أما الفتاة البلجيكية نيللي هوبكنسي فأبعدت خارج البلاد بناء على أوامر السلطان.
حسن الجركسي قُتل قبل أن يقضي على مراد الخامس.
- مذكرات خير الدين آغا (رئيس الأغوات في عهد السلطان عبدالحميد الثاني)، أسرار الحرم في البلاط العثماني (بيروت: مكتبة السائح، 2016).