مازجت بين ادعاء الانتماء والتطرف الشعوبي

الباطنية ابتكار عرقي لإحياء معتقدات الفرس القديمة

إن تفكيك العلاقات الفارسية العربية في مخْتَلِفِ مُدَدِها ومراحلها التاريخية، يقطع بأن الفرس انفردوا بصياغة أيديولوجية عرقية كارهة وناقمة على كل ما هو عربي. ويبدو أن الاستعلاء العرقي للفرس لم تُخمده روح الهدي الإسلامي والوحي الرباني وإنما زاد في اسْتِعَار نار الحقد والنقمة على الفاتحين الجدد، ليعمل معها الفرس على محاولة شرعنة حقدهم البشري ورفعه إلى مستوى العقيدة الدينية، من خلال عملية اختراق مذهبي ممنهج وتطويعه لخدمة أجندة عرقية صِرْفة.

في هذا السياق، شكل التمازج بين “ادعاء الانتماء” إلى الإسلام و”التطرف” للعرق الفارسي بداية نشوء فكر شاذ متطرف دموي أخطر من سابقه. وهو الفكر الباطني الذي استغل الدين لتوجيه اللاشعور الجماعي للأتباع لكره كل ما هو عربي والحقد عليه والاجتهاد لاستئصاله من خارطة الوجود الإنساني. وكل ذلك تحت مسوغات دينية جرى تطويعها من خلال لَيِّ أعناق النصوص والروايات.

ويرى بعض علماء الأمة بأن الباطنية إنما اشتهروا بهذا اللقب “لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجُهَّال الأغبياء صورًا جلية، وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة”.

وعن خبث الباطنية وخطرهم على الإسلام والمسلمين نجد صاحب “الفَرق بين الفِرق” يقول “اعلموا أسعدكم الله أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى… بل أعظم من مضرّة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان”.

وإذا كان هناك اختلاف حول التعريفات المرتبطة بالباطنية، فإن هناك “شبه” اتفاق على أصولها الفارسية المجوسية، حيث يذكر “أصحاب التواريخ أن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم، ولم يجسروا على إظهاره خوفًا من سيوف المسلمين، فوضع الأغمار منهم أُسسًا مَنْ قَبِلَها منهم صار في الباطن إلى تفضيل أديان المجوس، وتأولوا آيات القرآن وسُنن النبي عليه السلام على موافقة أسسهم”.

ويذهب أبو حامد الغزالي في نفس الاتجاه فيقول: “مما تطابق عليه نَقَلَةُ المقالات قاطبةً أن هذه الدعوة لم يفتتحها منتسب إلى ملة، ولا معتقد لنِحْلَة مُعْتَضِدٌ بنبوة… ولكن تشاور جماعة من المجوس والمزدكية، وشرذمة من الثنوية الملحدين… وضربوا سهام الرأي في استنباط تدبيرٍ يُخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين، ويُنَفِّسُ عنهم كربةَ ما دهاهم من أمر المسلمين”.

ومن خلال هذه الآراء، وغيرها، يتبين أن الباطنية جاءت ردةَ فعلٍ فارسية عكسية على انتشار الإسلام وهيمنة العرب على شؤون الأقطار، فتأوّل الباطنية النصوص وابتدعوا الآراء ليستعلوا على الدين ويستبيحوا دماء حملة آخر رسالة رب العالمين.

وأمام قوة المسلمين وانتشارهم في البقاع، رأى الفرس ضرورة تفادي المواجهة المباشرة والعمل لمحاولة الاختراق المذهبي وتمرير عقائدهم الباطلة، ومن ثم تشويه المذهبية وإلباسها لبوس المجوسية والزرادشتية. ولعل عجز الفرس عن إعلان المواجهة المباشرة مع العرب مَرَدُّه -كما يدعون- إلى “تفاقم أمر محمد…واستطارت في الأقطار دعوته، واتسعت ولايته، واتسقت أسبابه وشوكته حتى استولوا على ملك أسلافنا، وانهمكوا في التنعم في الولايات محتقرين عقولنا، وقد طبقوا وجه الأرض ذات الطول والعرض، ولا مطمع في مقاومتهم بقتال، ولا سبيل إلى استنزالهم عما أصروا عليه إلا بمكر واحتيال…فسبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم هم أركهم عقولا وأسخفهم رأيًا وألْيَنهم عريكةً لقبول المحالات، وأطوعهم للتصديق بالأكاذيب والمزخرفات”.

وحول هذه النقطة الخطيرة يصرح عبد القاهر البغدادي بأن ما يؤكد “ميل الباطنية إلى دين المجوس أنّا لا نجد على ظهر الأرض مجوسيًّا إلا وهو مُوادٌّ لهم، مُنتظر لظهورهم على الديار، يظنون أن المُلك يعود إليهم بذلك، وربما استدل أغمارهم على ذلك بما يرويه المجوس عن زرادشت أنه قال لكشتاسف: إن المُلْكَ يزول عن الفرس إلى روم اليونانية ثم يعود إلى الفرس، ثم يزول عن الفرس إلى العرب، ثم يعود إلى الفرس”.

إن تماهي الباطنية مع المعتقدات الفارسية يجد ارتباطه في استحالة الفصل بين اللسان العربي باعتباره مكونًا أصيلاً ومُعبرًا عن الدين، إذ لا يمكن التعبد أو التمعن في تفصيلات العقيدة وإعجاز الكتاب دون اللجوء والارتكان إلى اللغة العربية باعتبارها أداةً للفهم والاستيعاب واستكمال جمالية القراءة والفهم. ولذلك تفتقت عقلية الفرس على محاولة اختراق المذهب وتطويع النصوص لتتلاءم مع أصول المعتقدات الفارسية.

إجمالا، يمكن تلخيص العلاقة الجدلية بين الفارسية والباطنية في الوصف الجامع للدكتور طلال الطريفي الذي أكد بأن الفرس آمنوا “بخصوصيتهم في فكرهم الديني، باعتباره ابتكارًا عِرقيًا خاصًّا بهم، حتى حين دخلوا الإسلام أضافوا إليه فكرهم القديم، حتى عُرفت طرائقهم بالباطنية التي تنسلخ دائمًا من نقاء الإسلام بأسرارها وقداستها وأكاذيبها وخرافتها”.

  1. أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية (الكويت: مؤسسة دار الكتب الثقافية، د.ت).

 

  1. عبدالقاهر البغدادي، الفَرق بين الفِرق (القاهرة: مكتبة ابن سينا، 1988).

 

  1. عبدالوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).

 

  1. محمد الخطيب، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي (عمَّان: د.ن، 1986).

 

  1. محمد اليماني، كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة، وكيفية مذهبهم، وبيان اعتقادهم، تحقيق وتقديم: محمد الخشت (الرياض: د.ن، د.ت).