تأوَّلوا القرآن لِسَفْكِ دماءِ الإنسان
بدأ الاختراق الباطني للدولة العربية الإسلامية مع تغلغل البرامكة في البلاط العباسي
اجتهد البعض من أهل الفتنة للمناورة من أجل تأويل الصريح من الدين، ولَيِّ أعناقِ النصوص القرآنية الواضحةِ المعنى، والبَيِّنَةِ الدِّلالة والميسرة للذكر والفهم. واجتهد من غلبت عليه نزعة العِرق في التطاول على سمو رسالة الإسلام التي حمل العرب حِمْلَهَا وتبليغها.
إن مُعْطَى التقوى باعتباره معيارًا للارتقاء في مراتب القيم التي سطَّرها الإسلام لم يكن ليرضي العرق الفارسي، الذي رأى أصحابه في سمو العرق الآري (كما يدَّعون) والانتصار للإثنية مسألة وجودية تستوجب إعلان الحرب على من أخضع ملكهم ومكَّن للإسلام والعروبة في جميع الأقطار.
في هذا السياق، انفردت الباطنية بتأويل خاص للقرآن الكريم، إذ قالوا بأن “لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب في القشر…وأن من تقاعد عقله عن الغوص في الخفايا والأسرار، والبواطن والأغوار، وقنع بظواهرها مسارعًا إلى الاغترار، كان تحت الأواصر والأغلال معنًّى (أي: مُكَبَّلاً) بالأوزار والأثقال”. إن هذا الطرح الخبيث هو تألٍ على الله وتطاول على المولى عز وجل، واتهام مبطن بأنه -جل شأنه- يكلف الناس بما لا يطيقون حينما نَزَّل عليهم كتابًا لا يفهمون ظاهره ولا يفقهون مضامينه إلا من خلال استنباط باطنه، وتأولوا النقل الواضح بالتأويل الفاضح، ومن ثم جاؤوا بدين جديد وقول بعيد، هدفه طعن العقيدة من الداخل واستغلال الدين لتصفية حسابات عرقية ونعرات عنصرية.
ولعل فساد الحال وسوء المآل، دفع أصحاب هذه النبتة الشيطانية إلى ادعاء رفع التكليف بعد أن نالهم حظ من “التشريف” فقالوا بأن “من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه، وهم المعنيون بقوله تعالى: {ونضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}. وإذا كان هناك حسم في عقائد الباطنية وفِرَقِهِم، فإن هناك اختلافًا حول الفترة التاريخية التي اخترقت فيها هذه النبتة الخبيثة الجسد الإسلامي، وبدؤوا يمكنون لعقيدتهم الفاسدة. وهناك من ذهب إلى القول بأن البرامكة هم أول من مَهَّد “عمليّا” لهذا الاختراق الديني والثقافي، حيث تشير بعض أصابع الاتهام إلى يحيى البرمكي الوزير وصاحب دولة هارون الرشيد، إذ ينتسب إلى: “حفيد أحد كهنة معبد نافا فيهارا الوثني بإقليم البلخ في أفغانستان…”، وأثناء عمله داخل قصر الخلافة “بدأ يحيي البرمكي حملة ترجمة الكتب الهندوسية والبوذية من السنسكريتية إلى العربية، وهكذا بدأ الاختراق الثقافي والديني الباطني للإسلام”.
ويرى أصحاب هذا الادعاء أن البرامكة اخترقوا الجسد العربي وادَّعوا الإسلام ظاهرًا، واستطاعوا التحكم في مفاصل الدولة العباسية بعد أن أسقطوا الدولة الأموية، واغتالوا أميرها مروان بن محمد، الذي يُعَدُّ أول قائد عربي يهزم إمبراطورية الخزر الترك آرية.
إن إطلاق الباطنية لِمِعْوَلِ التأويل كان الهدف منه تسييس الدين لأغراض العرق والسياسة، فقاموا باستمالة العامة عن طريق “شرعنة” كل ما يحبونه ويشتهونه، فكان ذلك مقدمة للاستقطاب والتجنيد. وهو التكتيك الذي قام بتبنيه الشيوعيون حين قالوا بضرورة الركوب على مطالب الجماهير والعمل على اختراقها ومن ثم توجيهها للإطاحة بالأنظمة الإمبريالية.
اجتهدت الباطنية في استمالة العامة عن طريق تقديم تأويلات تتماهى مع أهوائهم.
وحول هذه النقطة، نجد صاحب الفَرق بين الفِرق ينبه إلى هذا التكتيك من خلال الإحالة إلى أحد كتبهم فيقول: “والدليل على أنهم يقولون بقِدَم العالم و يُنكرون الرسل والشرائع كلها، لميلها إلى استباحة ما يميل إليه الطبع، ما قرأتُه في كتابهم المترجم بـ “السياسة والبلاغ الأكيد، والناموس الأعظم”، وهي رسالة عُبيد الله بن الحسين القيرواني أوصاه فيها بأن قال له: ادع الناس بأن تتقرب إليهم بما يميلون إليه، وأوهم كل واحد منهم بأنكم منهم، فمن آنست منه رشدًا فاكشف له الغطاء، وإذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به، فعلى الفلاسفة مُعوّلنا، وإنا وإياهم مجمعون على رد نواميس الأنبياء، وعلى القول بقدم العالم”.
إن الاجتهاد له من القواعد والضوابط ما جعله علمًا قائمًا بذاته، ومحصنًا من بواعث أصحاب الأهواء، سواء تعلق الأمر بالباطنية الذين رفعوا التكليف عنهم، أم الغلاة وأصحاب الضلالة والذين تطرفوا في تأويل النص، فتقاطعوا بذلك مع عتاة الباطنية في استباحة أموال المسلمين ودمائهم وأعراضهم من خلال تأويلات شاذة شرعنوا من خلالها الخروج على ولاة الأمر و”تكفير وهجرة” عوام المسلمين.
- أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية (الكويت: مؤسسة دار الكتب الثقافية، د.ت).
- عبدالقاهر البغدادي، الفَرق بين الفِرق (القاهرة: مكتبة ابن سينا، 1988).
- عبدالوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).
- محمد الخطيب، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي (عمَّان: د.ن، 1986).
- محمد اليماني، كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة، وكيفية مذهبهم، وبيان اعتقادهم، تحقيق وتقديم: محمد الخُشت (الرياض: د.ن، د.ت).