استعطافًا للعرب والمسلمين... بحديث "الفاتح" المزيَّف
استغلوا الأحاديث الضعيفة والمعتلَّة ترويجًا لدولتهم
استدلَّ بنو عثمان بأحاديث نبوية في إضفاء القدسية الدينية على قيام دولتهم وحكم بلاد العرب، في توظيف سياسي وديني، لاستعطاف العرب والمسلمين وكسب ودّهم، بتبييض صفحاتهم السوداء جراء ما اقترفوه من جرائم تجاه العرب واحتلال أرضهم.
فالأحاديث التي يروج لها الأتراك العثمانيون إن لم يغلب عليها الضعف في أسانيدها، يؤولونها وفق أهوائهم، من ذلك الحديث الذي يُبشّر بأن فتحًا يكون في آخر الزمان: “لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ”. فهناك أمران يتعلقان بهذا الحديث:
الأول
أن سند الحديث فيه علتان: العلة الأولى أن الراوي الأعلى للحديث (عَبْدُ اللهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ،) يُصَنَّف عند علماء الجرح والتعديل على أنه راوٍ مجهول، ولم ينقل عنه هذا الحديث إلا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَعَافِرِيُّ، وقد رواه الإمام أحمد في مسنده، وكذلك الحاكم في مسنده، وضعفه الألباني والأرناؤوط. لذلك يشار إلى أن هذه الزيادة بأنها ضعيفة لجهالة الراوي، أما العلة الثانية: فمن رواته ريد بن الحباب، وقد اختُلف في اسمه واسم أبيه ونسبه، ولعل الاهتمام بالقسطنطينية وفتحها وتجهيز معاوية بن أبي سفيان أثناء خلافته جيشًا لفتحها ربما وضع من أجل يزيد بن معاوية الذي كان أميرًا لذلك الجيش في غزو القسطنطينية.
حديث الاستبشار بفتح القسطنطينية أضعفه الراوي الغنوي.
الثاني
وعلى اعتبار صحة الحديث، فإن الأمير المقصود في هذا الحديث ليس محمد الفاتح ولا جيشه التركماني عندما فتح القسطنطينية سنة 1453، وذلك لأسبابٍ عدة:
1.ورد الحديث في سياقات عن علامات القيامة وقربها، وهناك أحاديث مشابهة تعزز هذا السياق، فقد ثبت في صحيح مسلم أن القسطنطينية ستفتح في آخر الزمان في زمن المهدي، فقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بالأعْماقِ، أوْ بدابِقٍ، فَيَخْرُجُ إليهِم جَيْشٌ مِنَ المَدِينَةِ، مِن خِيارِ أهْلِ الأرْضِ يَومَئذٍ، فإذا تَصافُّوا، قالتِ الرُّومُ: خَلُّوا بيْنَنا وبيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقاتِلْهُمْ، فيَقولُ المُسْلِمُونَ: لا، واللَّهِ لا نُخَلِّي بيْنَكُمْ وبيْنَ إخْوانِنا، فيُقاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لا يَتُوبُ اللَّهُ عليهم أبَدًا، ويُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ، أفْضَلُ الشُّهَداءِ عِنْدَ اللهِ، ويَفْتَتِحُ الثُّلُثُ، لا يُفْتَنُونَ أبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَبيْنَما هُمْ يَقْتَسِمُونَ الغَنائِمَ، قدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بالزَّيْتُونِ، إذْ صاحَ فِيهِمِ الشَّيْطانُ: إنَّ المَسِيحَ قدْ خَلَفَكُمْ في أهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ، وذلكَ باطِلٌ، فإذا جاؤُوا الشَّأْمَ خَرَجَ، فَبيْنَما هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتالِ، يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ، إذْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأمَّهُمْ، فإذا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ، ذابَ كما يَذُوبُ المِلْحُ في الماءِ، فلوْ تَرَكَهُ لانْذابَ حتَّى يَهْلِكَ، ولَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بيَدِهِ، فيُرِيهِمْ دَمَهُ في حَرْبَتِهِ”.
2.كما يدل على ذلك قوله في حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه: “ثم يخرج إليهم روقة المسلمين أهل الحجاز، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، حتى يفتح الله عليهم قسطنطينية ورومية بالتسبيح والتكبير”، فالفتح إذن لا يكون إلا مرة واحدة، ولا يكون إلا على أيدي العرب؛ لأنه مرتبط بالملحمة الكبرى قبل خروج المسيح الدجال.
لم يربط العلماء والمؤرخون محمد الفاتح بحديث الفتح... كما اتفق الرواة على أن المقصود بالفتح يكون في آخر الزمان.
1. حمود التويجري، إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة ط2 (الرياض: دار الصميعي، 1414هـ).
2. محمد النيسابوري، المستدرك على الصحيحين (مستدرك الحاكم)، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1990).
بينما أجمع العلماء على ضعفها
تعدد افتراءات العثمانيين على الأحاديث النبوية
ترويج أحاديث ضعيفة السند وتأويلها وفق أهوائهم.
ثم إن الدولتين (فارس والروم) – بحسب سياق هذا الحديث الضعيف – في العصر النبوي ستزولان على أيدي المسلمين، ففارس ستهُزم وستزول بعد معركة أو معركتين، أما الروم فإن الصراع معهم سيطول وستكون هناك قرون من الصراع، وأن الحرب بين العرب والغرب سجال لا تتوقف، وستكون نهايتهم في آخر الزمان على أيدي المسلمين في ملحمة كبرى، تلك الملحمة النهائية الفاصلة التي لا قيامة بعدها للروم، وليس المقصود في الحديث بأن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بشّر بأن دولة بني عثمان ستبقى إلى آخر الدهر، وعلى العرب أن يخضعوا لحكمهم وسلطانهم.
وهناك حديث آخر عن المستورد القرشي رضي الله عنه، عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس” رواه النيسابوري. فالمقصود بالروم في الحديث عند -محمود أفندي- هم بنو عثمان، وأن دولتهم باقية كما بشّر الحديث بذلك، وأن ذلك واقع لا محالة. وهذا استدلال خاطئ؛ فالمقصود بالروم في الحديث الانتماء الديني.
والحديث السابق الذي رواه مسلم في صحيحه، يقول: إن الروم سيستمرون إلى آخر الزمان، وسيقاتلون العرب والمسلمين ويغزونهم حتى ينزلوا بالشام، وهذا دليل واضح على أن الروم ليسوا بمسلمين، بل أعداء مقاتلون للعرب والمسلمين، وإذا كان العثمانيون ومناصروهم يرون بأن الروم المذكورين في الأحاديث السابقة، هم أنفسهم الدولة العثمانية في تركيا، فهذا اعتراف واضح منهم بأنهم غير مسلمين. ويجدر القول، بأن أغلب سياقات الأحاديث النبوية عن الروم في آخر الزمان هي في إطار الصراع بين العرب والمسلمين من جهة والروم من النصارى وغيرهم من الطوائف الذين يدينون بغير دين الإسلام، من جهة أخرى.
فسروا أحاديث "الروم" بأنهم الأتراك العثمانيين.
1. محمد ناصر الدين الألباني، السلسلة الضعيفة (الرياض: مكتبة المعارف، د.ت).
2. محمود أفندي الحمزاوي، البرهان على بقاء مُلْك بني عثمان إلى آخر الزمان (بيروت: جمعية الفنون، 1308هـ).
فسادًا وتزييفًا وباطنية
العثمانيون فسروا القرآن بما يخدم مصالحهم
قالوا تزييفًا إن قول الله تعالى: "العباد الصالحين" يعني أنهم سلاطين بني عثمان.
وفي موضع آخر مشابه تصل شفاعة العثمانيين وعلمائهم إلى تفسير السيد الحموي لقوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:3-4] في كتابه المسمى (بالدر المنظوم في فضل الروم) ما نصه القائل: “قوله تعالى: {يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله}: أي للروم أصحاب قيصر ملك الشام، على فارس أصحاب كسرى وهم المجوس، وقوله تعالى: {وهو العزيز الرحيم}: أي في انتصاره لأحبابه وانتقامه من أعدائه، هذا وقد ذكر بعض أهل الكشف أن في هذه الآية الشريفة إشارة إلى امتداد الدولة العثمانية إلى آخر الزمان”.
وفسروا "فرح المؤمنين" بأنه امتداد للدولة العثمانية إلى آخر الزمان.
لذلك فقد بلغت الجرأة بعلماء الدولة العثمانية، أن تطاولوا على كتاب الله عز وجل، بتفسيره حسب الأهواء؛ لغرض الدنيا وإرضاء السلاطين. ويكفي أن المثالين السابقين يعطيان دلالة على أمرين مهمين: أولهما: عمق النرجسية التي كان يعيشها ويتعايش بها سلاطين العثمانيين، وثانيهما: سوء الحال الدينية التي كانت سائدة آنذاك، ففساد العلماء وجرأتهم على كتاب الله تدل على ضعف المعتقد وسوء النية.
وقد كان هذا التزييف لمعاني الآيات القرآنية بخلاف تفسيرها المثبت في كتب المفسرين الموثوقين من علماء الأمة الإسلامية؛ يكشف عن مدى فساد الدولة العثمانية وباطنيتها؛ لأن تفسير القرآن بالهوى وبخلاف المعروف، ما هو إلا خدمةً لأجندةٍ سياسية، وترويجًا لحكم الأتراك وسيطرتهم وسطوتهم، وتبريرًا لظلمهم، كي تتم شرعنة الظلم بما يُفسر زيفًا من آيات القرآن على غيرِ معناها الصحيح.
1. فؤاد حمزة، وصف تركيا الكمالية (بيروت: دار الجديد، 2013).
2. محمود أفندي الحمزاوي، البرهان على بقاء مُلْك بني عثمان إلى آخر الزمان (بيروت: جمعية الفنون، 1308هـ).
شعوبية العثمانيين
أرادت أن تغير لغة القرآن من "العربية" إلى "التركية"
تكفل الله عز وجل بحفظ كتابه من اللغو والتأويل، فروعة التنزيل وبلاغة الرد في قول الله عزوجل: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27]. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: “يقول تعالى آمرًا رسوله عليه الصلاة والسلام بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: لا مُغَيِّرَ لها، ولا محرِّف، ولا مؤوّل”.
لكن لدى السلطنة العثمانية؛ فإن التزييف المتعمَّد لمعاني القرآن الكريم كان أسلوبًا من أساليب العداء التركي وصيحاته العرقية ضد العرب وثقافتهم الأصيلة. وذلك ما استدعى كثيرًا من مفكري الأتراك إلى أن يسعوا متعمدين إلى محاولة طمس الهوية العربية، وطعنها في أول وأكبر مصدر لها (القرآن الكريم). أكبر الشواهد ما فعله بسيم أتالاي، رئيس مجمع اللغة التركية، بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التركية الجديدة، محاولاً تتريك القرآن الكريم، ومحولاً آياته إلى لغة تركية، ولفَّق ترجمتها على نحو لا يتلاءم مع قدسية القرآن الكريم وجلاله.
أصدروا فتوى شرعية رسمية بجواز تتريك القرآن.
عمد الأتراك إلى تجاهل العرب ولغتهم، وإقصائهم ونشر هويتهم التركية؛ إذ نادى الاتحاديون بتتريك القرآن الكريم، بأنه لا يلزم قراءته باللغة العربية، ولا يلزم الأتراك تعلم العربية من أجل قراءة القرآن، ثم أصدرت فتوى بإجازة ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التركية، واقتصار معرفته بما يُترجم، دون الرجوع إلى القرآن الكريم بلغته التي أنزل بها. فإن إصدار فتوى كهذه يقودنا إلى قوة التصنيف العرقي الذي يدعو إلى اجتثاث العربية وطمسها والدعوة إلى تتريك الهوية العربية واقتلاع تراثها، متجاهلين بأنه يحرم على الإنسان أن يقرأ القرآن بغير اللغة العربية؛ لأنه إذا قرأه بغير العربية لم يكن قرآناً، ومصداق ذلك قوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ثم إنه إذا قرئ بغير العربية لم يحصل الإعجاز البياني في القرآن.
الجدير هنا، أن تفسير القرآن العظيم مرَّ بمرحلة صعبة عصفت به موجات من التأويل والتحريف والتسييس ابتداء من العثمانية الأم إلى طعنات التتريك، التي تسعى إلى طمس لغة القرآن الكريم والعمل بالتركية، متجاهلة تراث الأمة العربية ونبراسها؛ لكن الله تعهد بحفظ كتابه فانتهى حكم السلطنة، وتبدَّدت هباءً منثورا، وبقي كتاب الله محفوظًا رغم محاولات المفسرين الأتراك ومحاولة عبثهم بالقرآن الكريم لتحقيق مآربهم العنصرية، حتى لو كان ذلك على حساب كتاب الله تعالى الذي يدَّعون قدسيته لديهم، وفي الوقت نفسه يخالفون أمر الله تعالى في مراعاة هذه القدسية.
ترجموا آيات القرآن بما لا يتلاءم مع قدسيته... وقالوا لا يلزم تعلم العربية لقراءة القرآن.
وبهذا من الممكن أن تتضح لدينا النظرة التركية تجاه العربية بتجرئهم على القرآن الكريم، إذ استكثر الأتراك كون القرآن عربيًا، فأرادوا مخالفة الله تعالى بتتريكه، حتى لا يكون للعرب ميزةً على الترك، وذلك بحسب ما يفهمون ويعتقدون، لا بحسب ما أمر به الله سبحانه وتعالى.
1. فؤاد حمزة، وصف تركيا الكمالية (بيروت: دار الجديد، 2013).
2. عماد الدين أبو الفداء، تفسير القرآن العظيم.