من خلال فرق "الفرسان الحميدية"
استخدم السلطان الأحمر الأكراد لقتل الأرمن والآشوريين
كعادة العثمانيين في الاستعانة بالمرتزقة والمقاتلين الأجانب، أنشأ عبدالحميد الثاني واحدة من أكثر الفرق العسكرية العثمانية دموية، كانت فرقة كردية خالصة، حين استغل خضوع الأكراد للاحتلال العثماني، وبدأ في تحويل جزء منهم لخدمة مشروعه الاستبدادي، وإنقاذ دولته التي كانت مهددةً بالسقوط.
كانت دولة عبد الحميد تئن تحت وطأة الترهل والانهيار والموت البطيء، وحينما وافق بعض الأكراد على الانخراط في المشروع العثماني بعدما ارتُكبت ضدهم مجازر كبرى قام بها العثمانيون كغيرهم من الأقليات الأخرى، ولأن من يعارض سياسة عبدالحميد الثاني أو يرفض العمل ضمن مشروعه فإن مصيره القتل والتنكيل، كما فعل العثمانيون مع الأرمن والعرب الذين قُتِل وشُرِّد منهم مئات الآلاف، فقط لأن بعضهم رفض القتال مع الجيش العثماني ضد خصومهم.
يشير الكاتب الأردني خالد بشير في منشور له على مدونة “حفريات” إلى أن الكتائب الحميدية أو الخيالة الحميدية، كانت فرقاً عسكريّة عثمانية شبه نظاميّة، تشكّلت من الفرسان المقاتلين الأكراد، وارتبط اسمها بالعثمانيّ عبدالحميد الثاني، الذي كان المؤسس والراعي لها، إلّا أنها سرعان ما كانت سببًا لارتباط اسم السلطان أيضًا بسلسلة من المجازر المروّعة، المعروفة بـ “المجازر الحميديّة”.
المجازر المروعة التي ارتبكها العثمانيون بحق الأرمن والعرب جعلت الأكراد يوافقون على الانضمام لفرق الموت التركية.
انتهت الحرب الروسية العثمانية عام (1878م) بهزيمة العثمانيين وخسروا أجزاء مهمّة من منطقة القوقاز، بينما بقيت الولايات الشرقية خالية من السيطرة الفعليّة للجيوش العثمانية التي كانت منهكة ومُستنزَفَة بفعل الحرب، مما ترك المجال للسيطرة عليها من قبل أطراف محليّة متعددة، مثل القبائل الكرديّة، والفصائل الثوريّة الأرمنيّة التي كانت قد بدأت بالظهور والنشاط خلال تلك الفترة بين القرى والمدن الأرمنيّة في شرق الدولة العثمانيّة. ولعل أبرز دوافع عبدالحميد الثاني إلى اللجوء صوب الأقليات لحماية عرشه، المخاطر الجسيمة التي حامت حول دولته، وانفراط عقد جيشه، وتراجع ثقته في قدرته على التصدي لتلك المخاطر المقبلة، خاصة إثر الهزائم المتتالية التي تعرض لها جيشه.
تقول وثائق العشائر الكردية: إن صاحب فكرة الفرسان هو القائد العام للقوات العثمانية شاكر باشا، والسبب وراء تأسيس الفرسان الحميدية تسهيل السيطرة على الكرد، وبالمقابل كان الروس يعتقدون أن الفرسان الحميدية قد تشكلت بنصيحة بريطانية لتقف ضد الروس واقترحوا على العثمانيين أن يكون زكي باشا قائد الجيش الرابع هو المسؤول عن تشكيلها، وكانت السلطنة العثمانية في حينها قد خافت من تكرار الأحلاف الكردية كالحلف المقدس الذي أنشأه بدرخان باشا في العقد الرابع من القرن التاسع عشر، ومن عصبة الكرد التي أقامها الشيخ عبيدالله النهري في الثمانينيات من القرن نفسه، والتي اشترك فيها أكثر من 200 رئيس عشيرة ومتنفذ كردي، من أجل تلك الأسباب فكّر المسؤولون الأتراك في العاصمة، في تشكيل الفرسان الحميدية نهاية المطاف.
استفاد عبدالحميد الثاني في تجربة إنشاء الكتائب الحميدية من الروس الذين أجروا تجربة مشابهة بتشكيل قوة من المقاتلين الكرد الساكنين وراء القوقاز، فشكل فرقتين كرديتين تحت قيادة العقيد لوريس ميليكوف، عرف اسمها بـ”القوازق” سنة (1878)، وعملت تلك القوة التي شكلها الروس لخدمة العمليات العسكرية، أما اسم الفرقتين الكرديتين فهما القارصية والإريڤانية حيث شاركتا في حروب القرم خلال الفترة (1853-1856)، ويقول نايف كركري في منشور له عن قصة نشأة الفرق الحميدية: “كان الدافع من تأسيس الفرسان الحميدية أن العثمانيين كانوا في صراع مستمر مع الروس، وأرادوا الاستفادة من قوة المقاتل الكردي المعروف بشجاعته ومقدرته القتالية وحماية الأراضي العثمانية من التغلغل البريطاني في الأناضول، فهذا على مستوى الصعيد الخارجي أما على مستوى الصعيد الداخلي فكان الهدف هو فرض السيطرة على العشائر الكردية ولا سيما العشائر الإقطاعية -الموالية للعثمانيين- وبسط نفوذهم على كردستان بصورة عامة لتكون العشائر خاضعة لهم وتحت سيطرة الدولة العثمانية”.
استلهم عبدالحميد الثاني فكرة كتائب الموت من الروس الذين جنّدوا الأكراد وراء القوقاز في حروب القرم سنة (1853).
في المقابل كانت غايات العشائر الكردية مختلفة تجاه الانضمام إلى تشكيل الفرسان الحميدية، فمنهم من كانت له الرغبة في تشكيل قوة مسلحة من رجالاتها لحماية العشيرة وتقوية نفوذها العشائري، ومنهم من رأى الفرصة المناسبة لاسترجاع قوته التي فقدها سابقا، وهناك من دخل في تلك التشكيلات للتخلص من الجندية والخدمة العسكرية.
وقد قُدِّر عدد الأفواج الحميدية بـ 40 فوجًا سنة (1891م)، وازدادت فيما بعد حتى وصلت إلى 30 لواءً، وكان الفوج يتكون من 180 فارسًا، بحد أدنى، وإلى 720 فارسًا بحد أعلى، أما اللواء فكان يتكون من 800 فارس بحد أدنى، وإلى 1200 فارس بحد أقصى.
ارتكبت هذه الأفواج والألوية المجازر بترتيب وموافقة وتخطيط عبدالحميد الثاني، فكان العثمانيون يرغبون في ارتكاب المجازر البشعة لكنهم لم يريدوا أبدًا أن تتجه أصابع الاتهام إليهم، فكانت فكرة الأفواج الكردية حلاً مرضيًا لكي ينفذ أحدهم الأعمال السيئة، كمواجهة الحراك الأرمني الذي رغب في التخلص من الاحتلال العثماني البغيض، وقد عمَّ عددًا كبيرًا من قرى ومدن شرق الأناضول، وبسبب عدم الرغبة في إظهار قمع الثورة الأرمينية جاء من قبل الجيش العثمانيّ النظاميّ، وما يستدعيه ذلك من رفض وإدانة أممية أوروبيّة، تقرر الاعتماد على الكتائب الحميديّة لتنفيذ مهمّة إخضاع الثوّار الأرمن وقمعهم، فكانت النتيجة وقوع ما عرف بالمجازر الحميدية.
جاءت نتائج كتائب الفرسان الحميدية مرعبة إثر مجازر بشعة ارتكبوها بحق كل من وقف في وجه العثمانيين وسلطة عبدالحميد، سواء كانوا من الأرمن أو الآشوريين وأقليات مسيحية أخرى، رافقتها عمليات تهجير وهدم وحرق للبيوت والكنائس. بينما بلغ إجمالي ضحايا المجازر الحميديّة خلال فترة أقلّ من عامين، بحسب وثائق القنصليات الأوروبيّة في الدولة العثمانيّة نحو 300 ألف ضحية، إضافة إلى ترحيل قسري لقرابة 600 ألف من الأرمن والآشوريين باتجاه المناطق الجنوبيّة من الدولة العثمانيّة. وقد استمرّت سلسلة من عمليات التقتيل المتفرقة وخاصة بحقّ الآشوريين حتى عام (1900).
واشتهرت كتائب الفرسان الحميدية التي رعاها عبدالحميد الثاني بدمويتها وفظاعات غير مسبوقة في الحروب، وكان السبب في ذلك الاعتماد على هذا النوع من الفِرق غير النظاميّة المعروفة بعدم تقيّدها بأي ضوابط أو قيود في الحروب والمواجهات وتجنب خضوعها لأيّ معايير أو ضوابط تخضع لها المؤسسات العسكرية النظاميّة. إضافة إلى حالة الشحن العاطفي بفعل الدعايات المضادّة للأرمن والآشوريين، التي عبئت بها مشاعر الأكراد وباتوا محتقنين ضد الأقليات الأخرى، على اعتبار أن القوميات الأخرى خونة وعملاء على حد وصف العثمانيين.
- علي حسون، العثمانيون والروس (بيروت: المكتب الإسلامي، 1982).
- محمد العلوي وبان الغانم، المسألة الأرمنية وموقف الغرب منها خلال حكم السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية بجامعة بابل، المجلد (12)، ع.1، (2012).
- مشعل ظاهر، الأرمن في عهد السلطان عبدالحميد الثاني 1876-1908، مجلة جامعة البصرة.
- ماجد محمد يونس زاخوي، الحميدية دراسة تايخية تحليلية، مجلس كلية الآداب بجامعة الموصل، (2006).
- خالد بشير، ماذا تعرف عن “الكتائب الحميدية” العثمانية؟، موقع حفريات.
- نايف كركي، الخرنگعية من الفرسان الحميدية إلى ذيول الجمهورية.. قصة الخيانة، موقع بازنيوز.
كانت ثورة عبيدالله النهري حلمهم في الاستقلال
تحالف العثمانيون مع الفرس لإفشال الحلم الكُردي
عانت الإمبراطورية العثمانية خلال القرن التاسع عشر من أزمات سياسية واقتصادية وعسكرية، وباءت محاولاتها الإصلاحية بالفشل، وزادت تلك الأزمات بعد حرب القرم (1854-1856) والحرب الروسية العثمانية (1887-1878)، اللَّتين أسهمتا في زيادة تدهور الأوضاع الاقتصادية حتى وصلت الدولة إلى حد الإفلاس. وأثّر ذلك في معظم ولاياتها وأقاليمها المختلفة، بما فيها أرض كردستان، التي كانت من قبلُ تعاني من السياسات العثمانية الجائرة نحوها، ومن سوء تصرف المسؤولين العثمانيين فيها، إضافة إلى حالة التهميش والإهمال وفرض الضرائب المتنوعة والتجنيد الإجباري لأبنائها.
ساءت أحوال الكُرد بعد اعتلال الدولة العثمانية عقب حرب القرم.
أثرت كل تلك العوامل مُجتمعةً في الحياة الاقتصادية للأكراد وعلى نظامهم المعتمد على الزراعة والرعي، فازدادت الأوضاع سوءًا وبؤسًا وانتشرت المجاعات وتبعها انتشار الأوبئة والأمراض.
لم تنفصل طبيعة الأكراد وحياتهم عن أراضيهم وصلاتهم العميقة والقوية بها، فهي التي تمدهم ومواشيهم بالقوت بزراعتها ورعيها، وجعلت تلك الطبيعة العنصر الكردي عنصرًا متشبعًا بحب الأرض ومرتبطًا بها ارتباطًا وثيقًا.
لقد كانت تلك العوامل والأوضاع البائسة التي عاشها الأكراد، مدعاة إلى تغيرات في وجهة نظرهم نحو الدولة العثمانية، فاتخذوا من ها موقفا سلبيًّا بل متطرفًا وعدائيًا في كثير من الأحيان، وتمثل ذلك في التمردات والثورات المتكررة ضدها، فشهدت كردستان العديد من الثورات ضد العثمانيين خاصةً بعد عام (1820)، كثورة أكراد الزازا، تلاها في الفترة ما بين (1829-1839) ثورات هكاري، وراوندوز، وطور عابدين، وثورة شريف خان البدليسي، إلا أن جميع تلك الثورات فشلت وترتب عليها سقوط معظم الإمارات الكردية حتى أصبحت في سنة (1847) ترزح تحت الحكم العثماني المستبد بشكلٍ مباشر.
الفقر، وبؤس الأوضاع المعيشية، والضرائب، والتجنيد الإجباري، جعل الأكراد يكرهون العثمانيين.
ازدادت الثورات الكردية وازداد معها العداء ضد الدولة العثمانية بعد الحكم المباشر لكردستان، وكانت معظم تلك الثورات في بداياتها تهدف إلى الاستقلال وتحقيق مبدأ الاحتفاظ بالأرض وخيراتها، ثم تطور ذلك المبدأ إلى فكرة الحكم الذاتي في إطار الدولة الأم، فكان هدف الأكراد الاستقلال في قرارهم وحكم أنفسهم بأنفسهم، من خلال ما كانت تغذيه أفكار زعماء القبائل الكردية، ولكن في نهاية القرن التاسع عشر حاولوا تقليل الاعتماد على زعماء القبائل من أجل الوصول إلى الفكرة القومية، وقتها تشكّل منهجٌ جديدٌ يؤصل القيم والأيديولوجية للقومية الكردية. فجاءت الانتفاضات الشعبية الواسعة التي قادها الشيخ عبيدالله بن طه النهري سنة (1880)، وهو أحد شيوخ الطرق الصوفية واسع النفوذ والانتشار والتأثير في عموم كردستان. وتعد ثورته من الثورات المهمة والأخيرة، فقد اندلعت الثورة في الأراضي الإيرانية المجاورة لمدينة شمدينان في منطقة جولميرك واستطاع أن يبسط سيطرته في الكثير من المناطق، بل شمل الكثير من المناطق الكردية. وامتلك الكثير من الأراضي بالإضافة إلى 200 قرية حصل عليها من السلطات العثمانية، والجزء الآخر ورثه من أبيه الشيخ طه. وهذا ما جعله ذا نفوذ واسع حتى أصبح من أفضل الزعماء الأكراد، فهو سليل أسرة شمدينان الكردية الشهيرة، التي كانت تحظى باحترام كبير بين أبناء المنطقة.
أرجع عدد من المؤرخين أهم أسباب اندلاع ثورة الشيخ عبيدالله النهري؛ إلى تردي الأوضاع الاقتصادية في عموم المناطق الكردية، التي كانت من أهم مسببات الثورة، والسياسة الجائرة الظالمة التي استخدمتها الدولة العثمانية والإيرانية في المناطق الكردية، جعل ذلك كله عبيدالله راغبًا في حماية قوميته الكردية وعاملاً لتوحيد الأكراد في دولة مستقلة، وأصبحت هذه الفكرة شغله الشاغل.
فاندلعت الثورة في أكتوبر (1880)، وقادها الشيخ عبيدالله النهري، في منطقة شمندينان، التابعة لولاية هكاري، جنوبي ولاية وان على الحدود العثمانية الإيرانية في شمال كردستان، وشاركت فيها معظم القبائل الكردية. واستمرت الثورة لمدة شهرين لم يستطع قائدها أن يحقق الأهداف التي كان يسعى إليها وجعلها نصب عينيه، وهي توحيد شطري كردستان، العثماني والإيراني، وتأسيس دولة كردية قومية يكون هو على زعامتها، ولكن كان للتدخل العسكري المشترك من الدولتين العثمانية والإيرانية أثرٌ في وضع حدٍ لنشاط تلك الثورة ولقائدها، حيث عاد النهري إلى شمندينان، ومنها أرسل إلى إسطنبول، إلا أنه ما لبث أن هرب من العاصمة وعاد إلى شمندينان عبر طريق القفقاس، وألقي القبض عليه مرة أخرى، فنفي إلى مكة المكرمة ومات هناك سنة (1883)، لينتهي حلم الاستقلال الكردي، ويحسب لعبيدالله وقوفه ضد الظلم في كلا الدولتين، كما يحسب له أيضًا أنه أول من أسس فكرة قيام دولة كردية قومية.
- إبراهيم الداقوقي، أكراد تركيا، ط2 (إربيل: منشورات آراس، 2008).
- أحمد تاج الدين، الأكراد تاريخ شعب وقضية وطن (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2001).
- باسيلي نيكيتين، الكرد دراسة سوسيولوجية وتاريخية، ترجمة: نوري طالباني، ط2 (بيروت: دار الساقي، 2001).
- سعدي عثمان هروتي، كوردستان والإمبراطورية العثمانية دراسة في نفوذ سياسة الهيمنة العثمانية (إربيل: مؤسسة موكرياني للبحوث والنشر، 2008).
- كاظم حيدر، الأكراد من هم وإلى أين (بيروت: دار الفكر الحر، 1959).
- محب الله، موقع الأكراد وكردستان تاريخيًّا وجغرافيًّا وحضاريًّا (د.م: د.ن، 1991).
- هوكر طاهر توفيق، الكرد والمسألة الأرمنية (بيروت: دار الفارابي، 2014).
بعد الحرب العالمية الأولى
كرر أتاتورك سيناريو سليم الأول في خديعة الشعب الكُردي
عاش معظم الكرد داخل ولايات الدولة العثمانية، وجزءٌ منهم عاش خارج حدود العثمانيين في ظل أنظمة سياسية فأكثرهم كان في إيران. ووفقًا للإحصاءات العثمانية تُقدّر بعض المراجع التركية أعداد الكرد داخل الولايات العثمانية في عام (1844) بحوالي مليون نسمة من إجمالي 35 مليون نسمة من سكان الدولة العثمانية في ولاياتها المختلفة.
لعب الكرد دورًا مهمًّا طيلة التاريخ العثماني، بدأ بتحالف الإمارات الكردية مع سليم الأول ضد الشاه إسماعيل الصفوي. بعد ذلك كشر العثمانيون عن أنيابهم في توظيف القومية الكردية لمصلحتهم، ومحاولة تدجينها وصهرها في الثقافة التركية، مما أدى إلى الصدام المباشر بين الإمارات الكردية والجيش العثماني، وبناءً عليه فقدت الإمارات الكردية استقلالها المباشر الذي كانت تتمتع به ابتداءً في حدود العثمانيين، ودخلت في تبعية مباشرة تحت ظل إسطبنول، آنذاك بدأت صفحات من العداء والصدام بين الكرد والأتراك.
صفحة أخرى جديدة من تاريخ العلاقات الكردية – التركية، بدأت مع نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية فيها؛ إذ بدأت جيوش الحلفاء في غزو ولايات الدولة العثمانية بل وقلب الدولة نفسها – إسطنبول- وبات الأمر وكأن هؤلاء الحلفاء ينوون اقتسام الأراضي التركية فيما بينهم. وزاد الأمر سوءًا قبول الحكومة العثمانية في إسطنبول لمعاهدة سيفر التي أُبرِمَت في 10 أغسطس (1920)، والتي جاءت في غير صالح الأتراك. من هنا ظهرت شخصية مصطفى كمال أتاتورك، الذي نجح في تشكيل حكومة وطنية في الأناضول، واستطاع تجميع ما تبقى من الجيش العثماني تحت يديه، إذ رفض أتاتورك معاهدة سيفر، وعقد العزم على مقاومة جيوش الحلفاء التي غزت الأراضي التركية.
ناضل الأكراد بجانب الأتراك في الحرب العالمية الأولى، وردوا لهم الجميل بالقمع والتهميش والإعدامات.
وكما فعل السلطان سليم الأول عندما طلب التحالف مع الكرد أثناء صراعه مع الصفويين، طلب أتاتورك المساعدة والتحالف مع الكرد للوقوف في وجه الغزو الأوروبي المسيحي، ونصرة الإسلام والخلافة. ووعد أتاتورك الكرد بما يتوافق مع طموحاتهم إذا وقفوا بجانبه ضد الغزاة حتى النصر، وبالفعل وافق معظم زعماء الكرد على التحالف مع أتاتورك ضد الجيوش الأجنبية، وكان دافعهم تصديق أتاتورك، وانتقامًا من الجيش الإنجليزي الذي احتل كردستان الجنوبية -أي كردستان العراق-، حيث احتلت بريطانيا العراق في الحرب العالمية الأولى.
تذكر المصادر الكردية أن أتاتورك تحدث مع زعماء الكرد بأن الأتراك والكرد هم أصحاب البلاد الأصليون، وأن النصر سيأتي على يديهم، وأنه بعد النصر سيعترف أتاتورك باستقلال كردستان، وأن الحقوق التي سيمنحها لهم ستكون أكثر بكثير مما نصت عليه معاهدة سيفر، التي لم يعترف بها أتاتورك.
وعلى ذلك انضم الكرد إلى الجيش التركي بقيادة أتاتورك، وساعد على ذلك ارتفاع عدد نواب الشعب من الكرد في المجلس الوطني الذي شكله أتاتورك في أنقرة، بعد سقوط إسطنبول في يد جيوش الحلفاء. وفي تلك الأثناء كان مؤتمر الصلح في باريس ينظر في أوضاع الولايات العثمانية، والشعوب الخاضعة لها. وكان هناك ممثل للشعب الكردي في هذا المؤتمر هو الجنرال شريف باشا الكردي، الذي كان بمنزلة رئيس الوفد الكردي إلى المؤتمر. لكن وقوف الكرد إلى جانب أتاتورك والجيش التركي في الأناضول، قلب الموازين؛ إذ أدرك الحلفاء أن الكرد ليسوا معهم.
وتفيد المصادر التركية أن كمال أتاتورك نجح في استمالة النواب الكرد إلى جانبه، بل دفع ممثل الكرد في مؤتمر لوزان، عصمت باشا الكردي، إلى المؤتمر الذي انعقد بعد فشل معاهدة سيفر، حيث كان الأخير في الوقت نفسه ممثلاً لتركيا، وقتها قال الإعلان التاريخي الشهير: “إن تركيا هي للشعبين التركي والكردي المتساويين أمام الدولة، ويتمتعان بحقوق قومية متساوية”. وأدى ذلك الأمر إلى تخلي أعضاء مؤتمر لوزان عن فكرة استقلال كردستان، والقبول بفكرة تركيا كدولة ذات شعبين: تركي وكردي. وهكذا لم تلتفت معاهدة لوزان إلى الحقوق القومية واستقلال كردستان الذي نصت عليه معاهدة سيفر التي لم يُكتَب لها البقاء.
بينما تشير المصادر الكردية إلى أن حكومة أتاتورك بعد معاهدة لوزان لم تحترم كون تركيا بلدا للشعبين: الشعب التركي والشعب الكردي، ولجأت إلى سياسة التتريك، وإضعاف الطابع الكردي، حتى أنها أطلقت على الكرد لفظ “أتراك الجبال”. وأثار هذا الأمر بعض القوى القومية الكردية، وتفاقم الأمر مع إعلان كمال أتاتورك الدعوة إلى التغريب في المجتمع التركي؛ إذ شعرت بعض التيارات الكردية أن رابطة الدين التي كانت تربط بين الكرد والترك، تخلى عنها أتاتورك بسهولة، حيث ارتمى في أحضان أوربا رافعًا شعار التغريب.
وقتها تزَعَّم أحد كبار رجال الدين الكرد، الثورة على الوجود التركي، وهو الشيخ سعيد الكردي، وبدأت ثورته في (1925م)، وشملت هذه الثورة المقاطعات الشرقية من تركيا. وكان الشيخ سعيد من المتصوفة، فهو رئيس خلفاء النقشبندية الدراويش.
وفي أنقرة بات واضحًا أن التمرد الكردي ينتشر في شرق البلاد بسرعة، وأصبح يشكل خطرًا كبيرًا على الحكومة التركية. وهنا لجأت الحكومة التركية إلى إعلان حالة الطوارئ؛ إذ صدر قانون لحفظ النظام العام، والذي يمنح سلطات وصلاحيات غير عادية للحكومة التركية، كما أنشئت محاكم الاستقلال في شرق البلاد وأيضًا في أنقرة، فمُنحت هذه المحاكم صلاحية إصدار أحكام الإعدام على من أطلقت عليهم لقب “المتمردون”.
كما أرسلت أعدادًا كبيرة من القوات التركية إلى شرق البلاد؛ ونجحت هذه القوات في القضاء على هذه الثورة، وألقت القبض على الشيخ سعيد الكردي، وأصدرت محكمة الاستقلال في ديار بكر حكمها عليه بالإعدام، إلى جانب 46 شخصًا من أتباعه في 29 يونيو (1925م)، وتم تنفيذ الحكم في اليوم التالي.
ولما كان التمرد الكردي قد بدأ على يد الدراويش المتصوفة، وكان زعيمهم من النقشبندية، تطورت مواقف أتاتورك ضد المتصوفة الدراويش؛ إذ أغلق كل مجالسهم الخاصة، وحل جمعياتهم ومنع اجتماعاتهم واحتفالاتهم.
ويرصد المؤرخ الأميركي برنارد لويس، تداعيات هذه الثورة، وقانون حفظ النظام على مجمل التاريخ المعاصر لتركيا قائلاً: “لقد منح قانون حفظ النظام العام -قانون الطوارئ- كمال أتاتورك السلطة القانونية للتعامل ليس فقط مع المتمردين في شرق البلاد، ولكن أيضًا مع المعارضين السياسيين في إسنطبول وأنقرة وغيرها”. وبعد التمرد الكردي تم الحظر على الحزب الجمهوري التقدمي، وفرضت الرقابة الصارمة على صحف المعارضة.
ويشير الصحفي المصري عماد الدين حسين إلى ظاهرة مهمة في تاريخ الكرد قائلاً: “لا أصدقاء لنا إلا الجبال والريح”. مقولة يرددها الأكراد كثيرًا، لكن غالبية قادتهم لا يعملون بها. هذه المقولة صحيحة إلى حدٍ كبير بالنظر إلى الرهانات الخاطئة والخيبات الكبرى للقادة الأكراد وآخرهم العدوان التركي عليهم في سوريا، وبيع أمريكا لهم مجانًا”.
الخذلان التركي للأكراد جعلهم يؤمنون أكثر بمقولتهم الشهيرة "لا أصدقاء لنا إلا الجبال والريح".
- أكمل الدين إحسان أوغلي وآخرون، الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي (إسطنبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون، 1999).
- برنارد لويس: ظهور تركيا الحديثة، ترجمة: قاسم عبده قاسم وسامية محمد (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2006).
- عماد الدين حسين: الأكراد… مائة عام من الرهانات الخاسرة، جريدة الشروق المصرية، 29 أكتوبر (2019).