الوباء "العثماني" في الجزيرة العربية

كفَّن التاريخ بـ "الحُزن"... ومنع العزاء

للجرائم التي اقترفها العثمانيون ضد السعوديين بعد إسقاط الدرعية صورة مأساوية، لا يمكن أن يتخيلها المنطق فيمن يدعي أنه مسلمٌ، ويمارس ضد الأبرياء والعامة من غير المحاربين التشفي والقتل والتعذيب والتشريد. ومع تعدد جرائم العثمانيين؛ فإن أولها كانت مع حملاتهم ضد الدولة السعودية الأولى.

إبراهيم باشا

تلذذ إبراهيم باشا وجيشه بتعذيب الأبرياء؛ وركز على المؤثرين منهم من الأعيان والعلماء، فكتب التاريخ تغص بالقصص والأحداث التي تواترت عن حجم الجريمة التي ارتكبت سنة (1818)، من قائدٍ عسكري عُرف بإدمانه على المُخدر، وكثرة ما كان يُصاب به من ذُهان واقتراف للجرائم تحت تأثير المُسكرات والمُخدرات، وهذا مما أوردته الوثائق العثمانية التي تؤكد بأن هنالك شخص يُرافق إبراهيم باشا في حملاته يُطلق عليه “أغا المعجون” الذي يُعد مُضغة الأفيون المُخدر له.

ومن قصص تلذذ القائد العثماني حين قبض جيشه على الشيخ سليمان بن عبدالله حفيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب بعد سقوط الدرعية، ولكونه عالمًا ومتصلاً بعائلة علم؛ فإن عملية تصفيته أخذت طابعًا ينم عن أن الأتراك أرادوا أن يرسموا في الأذهان وحشيتهم وعدم احترامهم للعلماء إن خالفوا مصالحهم، لذا -إيغالاً في قهر الشيخ سليمان- عُزفت الآلات الموسيقية المرافقة للغُزاة أمامه، وهم يعون تمامًا أن ذلك يُضايقه، وفي الوقت الذي أرغم على سماع ما كان يكره؛ أُشير إلى حملة البنادق من الجند أن يقوموا بإطلاق النار عليه بوقتٍ واحد، وما أن تم التنفيذ حتى تطايرت أشلاء الشيخ بين الذين كانوا يتابعون عملية الإعدام. 

أما قاضي بلدة الدلم الشيخ علي العريني؛ فكانت عملية إعدامه أكثر وحشيةً وبُعدًا عن الإنسانية، إذ أُخذوا يَجُرُّونه إلى ساحة الإعدام، وقد جُهِزت لذلك مدفعيةٌ في وسطها، ورفعوه وأدخلوا رأسه في فم المدفع، ليكون ذخيرة له، وأُشعِل الفتيل بينما الناس يرون أشلاءه (رحمه الله) تتاطير قطعًا في السماء.  ومن لم يُقتل بهذه الطريقة من العلماء قاموا بتعذيبه وضربه حتى الموت، وممن عُذِّبُوا ضربًا ولم يموتوا الشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي، إذ عذبوه بأشد أنواع وسائل التعذيب، حينما أنهكوه ضربًا ثم خلعوا جميع أسنانه.

شوهوا وجه السماء بأشلاء القتلى متطايرة.

ولم يقتصر الأمر في التصفية والإرهاب على الدرعية فقط، بل كان من مهام الجيش العثماني؛ قتل جميع من يجدونه من الزعماء المحليين الموالين للدولة السعودية، فكانت تُنفذ عمليات التصفية بطريقة ممنهجة وبتتبع دقيق، استُخدمت فيها أقسى أنواع التشفي، حيث رُميت جثث بعضهم في الشوارع بعد أن قُطعت الرؤوس.

إبراهيم باشا في حملته بعد إسقاطه الدرعية قُبَيل رحيله؛ أراد أن يُمارس كل أنواع الخراب والتخريب، فبعدما فرَّط في أرواح الأبرياء وأرهبهم؛ عَمَد إلى تخريب المباني والمزروعات والبساتين والنخيل، ليُحدث أزمة حقيقية في بلدان الدولة السعودية الأولى كافة، بقصد ألا تفيق من ضربته، وأن يعي السكان حجم العقاب الذي سيحل بهم إذا ما كرروا المحاولة مرةً أخرى في الوحدة والتوحد السياسي السعودي، وضرب الأمن الغذائي ودمر البُنى التحتية.

قهروا البراءة التي اعتادها السعوديون قبل وصول الغُزاة.

ولم يقتصر عند هذا الحد، فقد كان يُفكر بطريقة خراب عنقودية تُرخي بظلالها على تفاصيل حياة الناس، فإضافةً إلى استهداف الأرواح وأمنهم الغذائي؛ سعى إلى محاولة تجهيل الأجيال اللاحقة بسلب وسرقة التراث الثقافي والمخطوطات المحلية، فقد سرق معه 591 مصحفًا كان قد وجدها في المساجد ولدى الناس، و571 كتابًا مخطوطًا ومُجلدًا أخذها من بيوت العلماء قهرًا وتشفيًا، وقد كانوا يتلذذون بحسرة العلماء على ما أخذ من مقتنيات مكتباتهم. ولمزيدٍ من التجهيل أخذوا معهم من العلماء من لم يقتلوه حتى يغرق الناس أكثر من كل اتجاه.

كل ما قام به إبراهيم باشا من جرائم إنسانية في خلال حملته؛ أورث الخراب والدمار وغلاء الأسعار، وانتشر الفساد من أعمال جند حملته الذين كانوا ينقلون معهم الخمور، ويمارسون طقوسًا لم يعتد على رؤيتها الأهالي في الدولة السعودية الأولى، مما يتنافى مع تعاليم الدين الإسلامي، وفي الوقت نفسه مع الأخلاق والقيم والمبادئ السليمة، كما انتشرت الأمراض الخبيثة والمعدية بين الناس لكثرة ما أوجد من دمار في ظل وجود عساكر من جهات عدة يحملون معهم أمراض المبادئ وجيناتها.

حسين بك وآبوش أغا:

بعد أن سقطت الدرعية وغادرها إبراهيم باشا؛ كانت تعتقد الدولة العثمانية يقينًا بأنه لن تقوم في حدود الدولة السعودية الأولى قائمةٌ بعد ذلك، خاصةً بعد ما أقيم بها من مذابح ومطاردات وخراب وسلب ونهب، وما تُرك في البلدات النجدية المختلفة من حاميات عسكرية عثمانية بقصد محاولة السيطرة على الأهالي ومتابعة حالة التدهور بين السكان، وحتى لا تُفكر القوى السعودية باستعادة قواها من جديد، لا سيما بعد إعدام الإمام عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز آخر أئمة الدولة السعودية الأولى، الذي أُرسل إلى إسطنبول، ونفذ الإعدام به جُرمًا وتشفيًا وكراهية لكل ما هو عربي وسعودي تحديدًا، باعتبار أن السعوديين هم الذي وقفوا بكل قوة وقاوموا الظلم وحققوا الانتصارات في كثيرٍ من المعارك مع العثمانيين بما يمتلكون من أسلحة بدائية مقابل الجيوش المدججة بالأسلحة والمدافع والتخطيط والدعم المتواصل.

كانت الحاميات العثمانية في البلدان النجدية تُمارس الدور الذي كُلِّفت به من قبل قيادتها، ولم يتوقع العثمانيون أن السعوديين سيكونون سريعي الاستفاقة من ضرباتهم الأولى، لذلك ما أن سقطت الدرعية سنة (1818)؛ حتى عادت المقاومة بقيادة الإمام تركي بن عبدالله، الذي لم يتمكن إبراهيم باشا من القبض عليه خلال عملياته العسكرية بعد السقوط.

لذلك كانت الحاميات تُعاني من قلق دائم من عملية المقاومة المحلية، وتخسر بشكلٍ دائم بعض عناصرها نتيجة التصفية والمقاومة، فمقاومة الإمام تركي استمرت بعد (1818) إلى أن استعصى أمره على العثمانيين سنة (1821)، حيث اضطروا إلى إرسال حملة بقيادة حسين بك وآبوش أغا، فبعد أن تمكن الإمام تركي من السيطرة على الرياض؛ وصلت الحملة وحاصرته فيها مع أتباعه، ولأن الحصار أرهق قادة الحملة؛ عرضوا على الإمام الصلح شريطة استسلامه، غير أن هؤلاء القادة لا ذمة لهم ولا وعد، لذلك قرر تركي بأن يُغادر الرياض ليستجمع قواه للمقاومة، في الوقت الذي لم يستطع كل أتباعه الخروج مع خلال الحصار، فبقي منهم (70 بطلاً) سلموا أنفسهم إلى حسين بك وآبوش أغا، على وعد أنهم حصلوا على الأمان منهم إذ استسلموا، غير أنهم ما أن خرجوا من مكانهم حتى نُفذ فيهم الإعدام مباشرةً وقتلوا صبرًا.

دخل قادة الحملة إلى الرياض، واقترفوا الجرائم الشنيعة ضد الأهالي، بجريرة أنهم عملوا على إيواء الإمام تركي وأتباعه، لذلك كان عقابهم أن أخذت جميع أموالهم منهم، بينما حُبس الكثيرون، خاصةً من ليس لديهم أموال مغرية للصوص العثمانية.

وعلى الرغم من أن الحصار كان في الرياض؛ إلا أن حسين بك أراد أن يُعيد سيناريو الظلم من جديد ضد الدرعية عندما انسحب إلى بلدة ثرمداء، حيث وجه دعوةً إلى أهالي الدرعية ليفدوا إليه بعد أن أمر قائد حامية ثرمداء خليل أغا أن يبني بيتًا كبيرًا لهم حين يفدون، وأمره أن من يدخل هذا البيت لا يخرج منه تحت أي ظرف من الظروف، وكان إغراؤه لأهالي الدرعية كي يستجيبوا له أنه سيوزعهم بين البلدان النجدية بحسب خياراتهم، معللاً ذلك بأنه مضطر لإخلائها وتدميرها حتى لا يكون فيها أحد. والقصد الذي كان يهدف إليه أن يَخرج من كان مختبئًا ويفد إليه حتى يقوم بتصفيته.

جاء إلى ثرمداء قرابة 230 رجلاً بعائلاتهم من الدرعية، وحين أيقن من أنه لن يقدم غيرهم جمعهم في البيت الذي بناه لهم وأسماه الحظيرة فأمر بقتل كل من كان فيه، لذلك يُطلق الأهالي على سنة 1236هـ (سنة الحظيرة) التي وافقت سنة (1821)، ولعمق المأساة التي حدثت أنهم لم يكتفوا بقتل الرجال، بل سرقوا أموالهم من عائلاهم، وأخذوا معهم بعض الأطفال. 

بعد أن اطمأن حسين بك من أن الأرض بكت دمًا في ثرمداء؛ فرق جنوده في البلدان النجدية الأخرى، ليقتلوا ويعذبوا الأهالي وصادروا الأموال بعد فرض الضرائب الجائرة وسلبوا الأنعام والسلاح، حتى أخذوا حلي النساء من أجسادهن.

وتأكيدًا على منهجية الجرائم العثمانية ضد السعوديين؛ لم يكن حسين بك مختلفًا عن إبراهيم باشا، إذ مارس ضد العلماء الفظائع والقهر، فقد عذب الشيخ عبدالعزيز بن سليمان بن عبدالوهاب في حريملاء، وسجنه ونهب بيته، وسرق محتويات مكتبته وما فيها من مخطوطات نادرة وكتب قيِّمة، وأرسل قاضيه المرافق للحملة – اسمه الزللي – وكلفه بالإشراف على سرقة مكتبة الشيخ عبدالعزيز، وبعد أن فرغ أشعل النيران فيما تبقى من المكتبة.

ومن أبلغ صور المآسي أن جيش حسين وآبوش كانت لديه أوامر بقتل كل من يمتنع عن دفع المال لهم، لذلك قتلوا كثيرًا من الرجال لأنهم لم يكونوا يمتلكوا شيئًا يدفعونه لهم؛ ولكي يتوج حسين بك عمله بما يميزه، اقترف ما لم يسبقه إليه غيره، حينما نبش قبر أمير الحريق، كي يتأكد من أنه ميت؛ فقط لأنه كان ممن قاومهم، ولأنه انتصر على إحدى فرقه، غير أنه قتل بعد ذلك في المواجهات الأخرى. وفي بلدتي الداخلة ورغبة النجديتان قطعوا الأشجار والنخيل، ويذكر المؤرخون أنهم قطعوا أكثر من ألف نخلة فيهما، بقصد قطع المؤنة عن الأهالي الذين كانوا يعتمدون على التمر في غذائهم، بقصد إحداث مجاعة.

ونتيجةً لهذا الإرهاب جمع حسين بك نحو 70 ألف ريال فرنسي من القصيم، وكميات كبيرة من غلال الأهالي المسروقة، وكل ذلك تم تخزينة في ثرمداء بمخازن خصصها لجمع المنهوبات التي أخذها معه حين غادر عائدًا أواخر سنة (1821)، حيث ترك حاميات عسكرية في بعض البلدان الرئيسة.

 حسين أبو ظاهر

بعد رحيل حسين بك وآبوش أغا وتركهم الحاميات؛ وصل القائد العثماني حسين أبو ظاهر إلى نجد سنة (1822) يرافقه حوالي 800 عسكري، وكان من أكثر الناس خِدعةً وتَلَوُّنا؛ لأنه ما إن وصل حتى أظهر أمام الأهالي نفسه على أنه ناسك متدين، وأوهم الناس بأنه جاء كي يحاول مسح الأثر السيء الذي أخلفته الحملات التي سبقته. بينما أنه أُرسل من أجل الإمام تركي بن عبدالله ومقاومته لحملاتهم وحامياتهم.

والسبب الآخر الذي اختبأ وراء مجيئه أن العثمانيين لحظوا بأنهم جمعوا أموالاً طائلة في الحملات السابقة؛ لذلك كان تركيز أبو ظاهر على جمع الأموال والضرائب من الأهالي، لذلك أرسل عساكره إلى البلدان لجمع الأموال، وكانت تتم العملية بكثير من الوحشية والقسوة ضد الناس.

لم يظفر أبو ظاهر بالإمام تركي، لذا ركز على تأديب الأهالي في كل اتجاه وعلى جمع أموالهم وأرزاقهم، ومما استفزه أن بعض عساكره وسراياه هزمت على أيدي الأهالي، ومنها قوة موسى أبو كاشف الذي اتجه نحو قبيلة السهول التي قاتلته بشدة، حتى تمكنوا من قتله مع 30 من جنده، وفرت بقية السرية التي ترافقه.

كما أرسل حسين أبو ظاهر قوةً إلى موقق بالقرب من حائل، وحين امتنعوا عن الاستجابة إلى طلباته في دفع الأموال حاصرهم وقتل منهم قرابة 60 رجلاً، ولضغينته تجاههم طلب من حامية المدينة إرسال قوة أخرى إلى موقق بقيادة علي أغا والكاشف إسماعيل مع 500 عسكري بعد أن تم تزويدهم بمدفع جبلي، ومارسوا أقسى أنواع الإرهاب والتشفي. أيضًا من فرقه التي أرسلها إلى قبيلة سبيع التي كبدته الخسائر، وقتلوا من الأتراك 300 قرب الحائر، وقتلوا إبراهيم كاشف أحد قادتهم، بينما انتفضت بقية البلدات النجدية، ومنها عنيزة التي طردت الحامية المتواجدة فيها إلى المدينة المنورة.

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق وتعليق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 1983).

 

  1. إبراهيم بن عيسى، تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد (الرياض: دار اليمامة، 1966).

 

  1. أمين الريحاني، تاريخ نجد وملحقاته، ط2 (بيروت: د.ن، 1954).

 

  1. بيير كربيتس، إبراهيم باشا، ترجمة: محمد بدران (القاهرة: د.ن، 1937).

 

  1. سعود بن هذلول، تاريخ ملوك آل سعود (الرياض: مطابع الرياض، 1961).

كان أُنموذجًا للبطش والإبادة

العثماني حسين بك سفَّاح "مذبحة الحظيرة"

لم يكن سقوط الدرعية، ومعها الدولة السعودية الأولى، إيذانًا بنهاية مسلسل البطش والتنكيل الذي مارسه العثمانيون في حق المسلمين في الجزيرة العربية بشكل عام، والدرعية بشكل خاص، بل واصل الأتراك مسلسل الإبادة والإرهاب في حق شعوب المنطقة الرافضة لأية وصاية أعجمية على بلدانهم مطالبين -في الوقت نفسه- برجوع الحكم إلى حاضنته العربية.

في هذا السياق، لم يكن سقوط الدولة السعودية الأولى، إلا محطة من محطات الصراع الوجودي بين العرب والمحتل التركي في إطار التراكمات التاريخية لقضية استعادة الوعي العربي، ودفاعهم عن قضيتهم الأولى المرتبطة بتحرير المشاعر المقدسة من قبضة الاحتلال العثماني، خاصة أن سلاطين آل عثمان لم يهمهم يومًا أمر تنمية العمران البشري في الجزيرة العربية باستثناء الاستماتة في إخضاع الحرمين الشريفين من أجل إضفاء الشرعية الدينية على خلافتهم المزعومة.

ورغم الارتدادات السياسية والنفسية السلبية التي أعقبت سقوط الدولة السعودية الأولى، نجح الإمام تركي بن عبد الله بن محمد آل سعود سنة (1823) في طرد الحاميات العثمانية وتحرير مدن الخرج والدلم ومنفوحة والرياض والزلفي وعنيزة، لينجح في تأسيس أركان الدولة السعودية الثانية، ويشيع حكم الإسلام فيها لإعادة الحكم إلى أهله وإعادة إحياء مجد العرب وحضارتهم.

ومن صور الحكم الرشيد التي رسّخها آل سعود في تعاملهم مع الرعية، نرصد شذرات مما قاله الإمام تركي بن عبد الله، لأمراء البلدان في خطاب توجيهي جاءت بعض مضامينه: “واعلموا أني لا أبيح لكم أن تأخذوا من الرعايا شيئاً، ومن حدث منه ظلم على الرعية فليس أدبه عزله، بل أجليه عن وطنه”.

إن هذا النموذج من الحكم الراشد كان مصدر استفزاز لآل عثمان لتصدر الأوامر إلى حسين بك باستباحة الجزيرة العربية بأكملها، وخاصة الدرعية، وعندما وصل حسين بك إلى ثرمداء أعلن الأمان لأهل الدرعية وطلب منهم الخروج مقابل الضمان على حياتهم وأبنائهم وأموالهم مبطنًا لهم الغدر والخيانة وكاشفًا لهم الود والمسالمة.

نجاح الإمام تركي في استرداد بعض المدن ونشر العدل استفز آل عثمان

لقد شكلت شخصية حسين بك أنموذجًا ثابتا لأدوات البطش العثمانية التي خُصِّصت ووُجِّهت لإبادة المسلمين في الجزيرة العربية، وهنا نجد المؤرخ عبد الله بن محمد آل بسام يرصد جرائم حسين بك في الدرعية فيقول: “فلما وصلوا إلى الدرعية أمر حسين بك على أهلها الذين نزلوها بعد ارتحال إبراهيم باشا عنها أن يرتحلوا، وأمرهم بالسير إلى ثرمداء فتوجهوا إليها، ثم أمر بهدم الدرعية وقطع أشجارها فهدموها وأشعلوا فيها النيران وتركوها خاوية”.

لقد نجحت الحيلة وتكتيك الاستدراج الذي استخدمه حسين بك، وهو ما يصفه المؤرخ ابن بشر بالقول: “فلما قدم حسين ثرمداء أمر المنادي ينادي لأهل الدرعية من أراد بلدًا ينزلها فليأتنا نكتب له كتابًا يرحل إليها، فحضر من كان منهم غائبًا أو مختفيًا أو محترفًا، فلما اجتمعوا عنده أمر الترك أن يقتلوهم أجمعين، وأخذ الترك أموالهم وشيئا من أطفالهم” في مذبحة عظيمة ومقتلة كبيرة أطلقت عليها كتب التاريخ “مذبحة الحظيرة”.

إن ما ذكرته كتب التاريخ حول جرائم حسين بك في الدرعية ترقى إلى مستوى التواتر وتقطع بتورط الأتراك في إبادة مسلمي الدرعية على فترات متقاربة، وهنا نختم الإحالة بسرد ما تناوله عبد الله آل بسام حيث قال: “ثم أمر حسين بهدم الدرعية فهدموها وأشعلوا فيها النيران، ثم سار إلى الرياض وبها تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود”.

أمر حسين بك بهدم الدرعية وغدر بالآمنين من رجالها وأطفالها

إن ما قام به حسين بك من خلف الوعد، وتغرير الآمنين، ليس سلوكًا فرديًا وإنما هو جزء من البنية السلوكية للعثمانيين الذين جُبلوا على الغدر والمكر والخديعة، وهو ما يجعلنا نطمئن إلى رميهم بالنفاق استنادًا إلى الحديث النبوي الشريف “آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان” (أخرجه الشيخان)، والثابت أن هذا السلوك الشاذ سيظل علامة مسجلة لتعامل العثمانيين مع شعوب المناطق التي أخضعوها إلى غاية سقوط دولتهم سنة (1924م).

  1. إبراهيم بن عيسى، تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد (الرياض: دار اليمامة، 1966).

 

  1. أمين الريحاني، تاريخ نجد وملحقاته، ط2 (بيروت: د.ن، 1954).

 

  1. عبد الله آل بسام، تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق (الكويت: المختلف للنشر والتوزيع، 2000م).

 

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق وتعليق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 1983).

 

  1. منير العجلاني، الإمام تركي بن عبد الله: بطل نجد ومحررها ومؤسس الدولة السعودية الثالثة (الرياض: دار الشبل، 1990).
تشغيل الفيديو

الإمام الذي أحبته الأرض... تركي بن عبدالله

خرج من الدرعية ليلاً... ليعيد "نهار" الوطن بعد سبع سنوات

انقلبت الدرعية إلى مدينة أشباح يجوبها الغبار وصوت الارتياع، رائحة البارود وهزات المدافع العثمانية التي طغت على صوت الأذان وأدعية السعوديين بكشفِ البلاء، بعد أن كانت العاصمة السعودية الأولى مدينة حققت درجة متفردة اقتصاديًّا وزراعيًّا وأمنيًّا حتى وصلت للاكتفاء الغذائي الذاتي، فصار كثير من العمال والتجار العرب يعيشون فيها مستقرين آمنين.

بين واقعين متناقضين خرج أحد أشجع السعوديين مستلهمًا قيم أُسرته النبيلة وأجداده العظام وملهمًا أبناءه وأحفاده بالهيبة والإقدام بعد أن نفخ في روحهما الهوية السعودية الوطنية. كان الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود مملوءًا بوطنه ومواطنيه، في الوقت الذي كانت فيه الدرعية تصرخ تحت وطأة همجية الجيش العثماني ونهمه بالدم والقتل والتعذيب، بعد أن رأت اسطنبول الدولة السعودية الأولى تحظى بالوحدة الوطنية والروحية بين الشعب السعودي وأئمته ما يُهدد دولتهم التركية.

حمل روحه على كفيَّه من أجل الوطن.

بعد سقوط الدرعية

كان تركي بن عبدالله أحد المدافعين الأشاوس خلال حصار إبراهيم باشا للدرعية، حينما كلفه آخر أئمة الدولة السعودية الأولى عبدالله بن سعود بحماية الجهة الجنوبية من الدرعية مع أخيه زيد وجزء من أهالي الدرعية، ولأن الدرعية سقطت وكان تركي من ضمن المطلوبين على قائمة القائد العثماني، غير أنه قرر الانسحاب التكتيكي عن الدرعية بقصد العودة لمقاومة الاحتلال وقهر الغُزاة، لأنه يعي بأن مقامهم لن يطول، باعتبار أنهم جاؤوا للخراب فقط.

ذهب تركي سنة (1818) إلى آل شامر من بادية العجمان، وأقام لديهم مدةً تزوج فيها من ابنة زعيمهم غيدان بن جازع، ورزق بابنه جلوي، الذي أسماه بهذا الاسم نسبةً إلى (جلوته) من الدرعية، وكان كثير التنقل بين البلدان النجدية، وهو يستجمع قواه ويزيد من أتباعه، حيث اتخذ من جبل “عليَّة” مقرًا لقيادته بعد أن استقرَّ مُدَّةً من الزمن في بلدة الحلوة جنوبي نجد، وبالقرب من حوطة تميم.

و”عليَّة” جبل مطلّ وهضبة من جبال اليمامة، يتميز بمنعته وارتفاعه، واختيار هذا الموقع الجغرافي المميز ينم عن بُعد نظر القيادة لدى الإمام، باعتباره مُشرفًا على جهات عدَّة: الخرج ووادي نساح جنوبًا، وادي نعام والحريق وأسفل بلدة الحوطة شمالاً، وأودية الجفير ومرقان والمجهولة وحنيظة غربًا. كان “عليَّة” حاضرًا في شعر الإمام تركي بن عبدالله:

حاول الإمام تركي أن يتخذ من السريَّة في تحركاته استراتيجية مهمة، إذ حرص على كثرة التنقل بين البلدات والبوادي حتى لا يتم تتبعه بسهولة إذا ما استقر في مكانٍ واحد، إلى أن ظهرت بوادر إعادة إعمار الدرعية من جديد، وإعادة الوحدة من جديد بتكاتف المجتمع حول مشاري بن سعود بن عبدالعزيز ابن الإمام سعود، الذي كان قد أسر ضمن جيش إبراهيم، واستطاع الهرب من المعسكر العثماني قبل أن يصل إلى ينبع قادمًا من المدينة المنورة، ولجأ إلى نجد مع حراسه، والتف حوله الناس حتى وصل إلى الدرعية سنة (1820)، وممن انضم إليه وسانده الإمام تركي بن عبدالله عائدًا من مركز قيادته في “عليَّة”، وقد عيَّنه مشاري أميرًا على الرياض.

غير أن الحامية العثمانية في عنيزة كانت تخطط لإنهاء حركة مشاري، وتم القبض عليه ونقله إليها، إذ توفي في سجن الحامية، فعاد الإمام تركي للانسحاب الاستراتيجي لمقاومة الأتراك من جديد. واتخذ أسلوبه السابق في التنقل، ومن ضمن البلدات النجدية التي كان يمكث فيها مع أتباعه (ضرما)، وقد علمت استخبارات العثمانيين بوجوده فيها، فأُرسلت حامية من المتعاونين معهم قوامها 100 فارس إلى ضرما، وقبلها بُعث رسولاً يخبر أتباعهم في البلدة بقدومهم كي يقبضوا على الإمام وجنده.

كان الإمام تركي يترصد الطرق، توقعًا منه أن العدو ليس له طريق إليه إلا من خلال الحيلة، وقد عثر على الرسول قبل أن يصل ضرما، فقبض عليه وعلم بمخطط المتعاونين مع حامية العثمانيين، وعرف البيت الذي تُقاد منه حركة المعادين له في البلدة، فعاد مُسرعًا إلى أتباعه وأمرهم أن يلجؤوا إلى أحد القصور، بينما خرج هو ليلاً قبل تنفيذ الخطة الموجهة ضده، واتجه إلى البيت الذي ينتظر بمن فيه القادمين إليه، ودخل عليهم في البيت وهم حول النار، وأعمل فيهم سيفه بعد أن أطفأوا نارهم خشية الموت بسيف تركي، وهربوا وتسوروا البيت جرحى وخائفين، ونتيجةً لما رأوه من بسالة الإمام وحده ودخوله عليهم؛ أعلنوا انضمامهم له. بينما واجه الحملة التي أرسلت إليه وأوقعهم في الهزيمة قبل أن يحققوا أي نتائج كانوا يصبون إليها بل كانت النتائج عكسية بزيادة الموالين لتركي بن عبدالله.

تركي يقود الوطن

كانت الظروف مواتية بعد انتصار تركي بن عبدالله في ضرما، لذا قرر أن يغتنم الفرصة ويتجه صوب الدرعية لإنهاء سيطرة الموالين للأتراك، وبالفعل تمكن من ذلك ومنها اتجه إلى الرياض وفيها جعل مقر قيادته. غير أن حامية آبوش أغا في عنيزة انضمت إليها قوة عسكرية جديدة قادمة من المدينة المنورة بقيادة حسين بك، واقتنعت هذه القوة بضرورة الاتجاه إلى الإمام تركي في الرياض والقضاء عليه قبل أن تزداد قوته، فوصلت الحملة وحاصرته وأتباعه، ولطول فترة الحصار وخوفًا من تناقص المؤنة لدى المُحاصرين؛ ارتأى الإمام الانسحاب من جديد من الرياض كي يعود إليها أقوى مما كان عليه، بعد أن استسلم، خاصةً أنه لم يبق في الساحة السعودية وقتها من هو مؤهل لذلك، على خلاف الإمام تركي الذي يمتلك الشجاعة التي تسامع بها الناس، والميزة التي جعلته يُنصر على أعدائه بالرعب قبل المواجهة، ولكونه يمتلك الصفات القيادية كأسلافه في الدولة السعودية الأولى، فمن الضروري ألا يستسلم لقوات حسين بك وآبوش أغا، ليستكمل ملحمة الوطن وعودة وحدته.

ويعي الإمام يقينًا أن تلك الحاميات والقيادات التي تأتي بين حينٍ وآخر، لا يطول بها المُقام باعتبار أن المجتمع السعودي لا يمكن أن يتواءم معهم، وبأنهم جاؤوا بقصد الدمار والسلب والنهب، ومع الوقت سيُجبرون على التراجع والانسحاب، وبالفعل لم ينته عام (1821) حتى انسحب آبوش أغا وحسين بك، مع بقاء حاميات عثمانية في عددٍ من البلدان النجدية المهمة، والتي كانوا يتخوفون بأنها ستعود لتوحدها من جديد.

طرد المجرمين العثمانيين بنُبل العُظماء.

لذلك مع بداية سنة (1822) أرسل العثمانيون حملةً عسكرية بقيادة حسين أبو ظاهر، في الوقت الذي كانت فيه القبائل والبلدان النجدية تُعلن ولاءها للإمام تركي وتُسانده في إعادة الدولة السعودية من جديد، لذلك كان الإمام يقودهم بين حينٍ وآخر ضد الحاميات العثمانية، خاصةً حاميتي الرياض ومنفوحة.

وحاول أبو ظاهر أن يرسل حملات تأديبية للقبائل التي أعلنت ولاءها للإمام، لكن أغلبها هُزمت وقُتل قادتها، كما صمدت في وجهه كثير من البلدان النجدية الأخرى التي استعصت على قواته، لذا لم يطل المُقام حتى قرر أبو ظاهر الرحيل مرةً أخرى من نجد تاركًا خلفه حاميات متهالكة ضعيفة غير قادرة على مواجهة الوطن الذي صمد أمام الوحشية والقهر والتصفية والجريمة.

وانتصر السعوديون

لم يبق من قوى الغُزاة ما ظل ينافح أمام الإمام تركي سوى حاميتي الرياض ومنفوحة سنة (1823)، فاستأنف الإمام مقاومته لهما بعد أن جاء من بلدة الحلوة، وتوجه إلى عرقة قرب الرياض، ووفد إليه المبايعون له من عددٍ من بلدان نجد التي أعلنت انضمامها له، وخلال هذه الفترة كان تركي بن عبدالله اسمًا يزلزل الأتراك على الأرض في مقر الحاميتين، وفي الوقت ذاته فُتن الناس بما سمعوه من بطولات الإمام وجسارته وقوته.

واجه الإمام تركي قوات حامية الرياض في عرقة، وكان يقاتلهم بطريقة حرب العصابات، التي أرهقتهم وجعلتهم يعون عجزهم أمامه، ويعيشون القلق الدائم من احتمالية الهجوم في كل وقت وحين، خاصةً وأنه تم قطع التواصل بين الحاميتين ومركز قيادتهما المباشرة في المدينة المنورة. وبعد حصار قرابة 20 يومًا لحامية منفوحة؛ أُجبرت الحامية على مغادرة البلدة بعد أخذها الأمان بالرحيل.

وفي عام (1825) شدد الإمام تركي حصاره على حامية الرياض، وبعد مواجهات شرسة بينه وقوات الحامية وحصار استمر لأشهر، بعدها أيقن المُحاصرون أنهم لا بد أن يستسلموا والفوز الذي يطمحون إليه كان رحيلهم من دون أن تحدث في حقهم مذبحة، وكانت قوات هذه الحامية آخر القوات العثمانية الراحلة، بعدها أعلن الإمام تركي عن إمامته في عاصمته الجديدة الرياض. وفيها قامت الدولة السعودية الثانية في (1240هـ -1825).

ليُسطر التاريخ السعودي في الدولة الثانية بملحمةٍ قهر فيها التُّرك، وأذلهم، وأثبت أن الأرض لا تقبل إلا قادتها ممن تأصَّل حبهم في قلوب الناس، في الوقت الذي أثبت فيه المجتمع التفافه وتفانيه وتلاحمه مع قيادته. لذا يبقى السعوديون شوكة في الحنجرة العثمانية مزقت تاريخهم على أراضيها بقواتهم وعتادهم وعنادهم، فكان السعوديون القوة التي أركعت التُّرك واستبدادهم، وكسرت قاعدة الجبروت والغطرسة. 

أسس الهوية الوطنية.. وحرر "الجُغرافيا" من فم النسيان.

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق وتعليق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 1983).

 

  1. منير العجلاني، الإمام تركي بن عبدالله بطل نجد ومحررها (الرياض: دار الشبل، 1990).

 

  1. عبدالفتاح أبو علية، تاريخ الدولة السعودية الثانية، ط5 (الرياض: دار المريخ، 1995).

 

  1. خليفة المسعود، موقف القوى المناوئة من الدولة السعودية الثانية (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005).