جمّعتهم بعد التيه وساعدتهم على لاستيطان في الوطن العربي

الدولة العثمانية... ملجأ شتات الصهيونية اليهودية

شكّل اليهود عبر تاريخهم تجمّعا بشريًّا فريدًّا من نوعه، استطاع الصهاينة أن يستغلوا من خلاله الدين لبناء هوية عِرقية تستعلي على باقي الأعراق، وترفض الاندماج في باقي المجتمعات، وهو ما شكّل عامل وحدة وقوة من جهة جعلتهم يحققون نتائج إيجابية لهم فيما بعد للتحكم في أهم مفاصل صناعة القرار الدولي، ومن جهة أخرى دفعت عُزلة اليهود العديد من الأنظمة إلى قمعهم ومحاولة تفتيتهم أو إفنائهم، إذ لعب البُعد الديني دورًا مهمًّا في رفض المجتمع المسيحي، خاصة التعايش مع المكون الصهيوني اليهودي الصلب.

وفي هذا السياق، ساهم السلوك الانعزالي لصهاينة اليهود ومطامحهم التمكينية في نكبتهم وسوء مصيرهم، ولعل السبب الأول يكمن في أن اليهود في شتى أنحاء العالم لم يندمجوا في المجتمعات الأصلية، بل حاولوا خلال التاريخ البشري الطويل، التكتّل فيما بينهم، وقد أدى هذا التكتل إلى انحصارهم في مناطق معينة من العالم. هذا المُعطى يُضاف إليه مهارة صهاينة اليهود في مجالات العلوم والفلسفة، وهو ما رأى فيه الحكام المسيحيون تهديدًا جديًا للعقيدة ومحاولة جادة لتفجيرها من الداخل.

ولعل سياسة المكوّن المسيحي لم تخل من ترسّبات دينية وتاريخية، على اعتبار أن المسيحيين كانوا يُحمّلون اليهود مسؤولية اعتقادهم قتل المسيح عيسى عليه السلام وصلبه بعد “العشاء الأخير” وتحميلهم مسؤولية الانحراف عن العقيدة اليهودية، وهي الأساطير المعروفة بتهم “جرائم الطقس الديني”.

من جهة أخرى، مُخطئ من يعتقد بأن هجرة اليهود الأولى، وتجمّعهم الأول كان في أرض فلسطين. بل إن الثابت من خلال الوقائع والشهادات بأن أهم هجرة لليهود كانت نحو الديار العثمانية، بالتزامن مع الهجرات نحو العالم الجديد (أميركا)، ونكاد نقطع بأن الهجرات نحو الأناضول كانت بدايات تشكّل أولى معالم الصهيونية العالمية التي تبلورت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

أما أولى آثار هجرة اليهود نحو الدولة العثمانية، فكانت في عهد أورخان ابن المؤسس عثمان بن أرطغرل، الذي أظهر اهتمامًا كبيرًا باليهود الذين برهنوا على نجاحهم وعُلُوِّ كعبهم في مجالات التجارة والصناعة والمالية. ومنها نشطت فكرة الهجرات على مراحل، إذ اعتبرت شبه جزيرة الأناضول مقصدا للصهيونية اليهودية، خاصة بعد أن وجدوا في آل عثمان الحماية التي افتقدوا إليها في باقي البلدان الأوروبية.

كانت هجرة اليهود نحو الأناضول بداية لتشكيل الصهيونية العالمية في نهاية القرن التاسع عشر

إلا أن أهم الهجرات الجماعية كانت في عهد بايزيد الثاني، الذي رغم فشله في إنقاذ مسلمي الأندلس، إلا  أنه نجح في إنقاذ يهود شبه الجزيرة الإيبيرية. وحول هذه النقطة يقول المؤرخ الأميركي ستانفورد ج. شو: “لا يستطيع أي باحث مُنصف أن يُنكر دور السلطان بايزيد الثاني في إنقاذ يهود جزيرة إيبيريا من الفناء الكامل في أفران محاكم التفتيش”.

إن التدقيق في المُعطيات التاريخية، يفيد بأن بايزيد الثاني لم ينقذ اليهود بالمفهوم الظاهر للمصطلح، وإنما رحّب بهم بعد تهجيرهم من طرف ملك إسبانيا فرديناند، الذي طرد أكثر من ثلاثمائة ألف يهودي من إسبانيا سنة (1492)، ثم قام بطردهم من البرتغال.

ولعل مكانة بايزيد الثاني في قلوب اليهود راجعة إلى كونه كان متحمسًا لاستقبال اليهود في دولته، بالنظر إلى براعتهم في مجال المال والأعمال، هذه الميزات السلوكية دفعت بالسلطان العثماني إلى إصدار فرمان يقضي بأن يعمل الموظفون العثمانيون الرسميون كل ما في وسعهم لتسهيل دخول اليهود للحدود العثمانية، وتطبق عقوبات صارمة ضد الذي يضر المهاجرين بأي شكل أو يعاملهم معاملة سيئة.

وإذا كان عهد بايزيد الثاني هو عصر إنقاذ اليهود واستقبالهم، فإن فترة حكم سليمان القانوني اعتبرت العصر الذهبي للصهيونية اليهودية، حيث شكّلت سياسة سليمان استمرارًا لسياسة بايزيد الثاني في استقبال اليهود، الذين أدخلوا العثمانيين إلى مناطق غير  خاضعة للأتراك، كما حدث حين خرج وفد من اليهود برئاسة شخص يدعى جوزيف بن سالومون إسكنازي من مدينة بودا بالمجر، واستقبلوا سليمان القانوني خارج المدينة وسلّموه مفاتيحها بلا قيد ولا شرط، ليصدر السلطان العثماني فرمانًا يعفي سالومون وسلالته من أداء جميع أنواع الضرائب.

لم يقف دعم سليمان القانوني اليهود عند هذا الحد، بل تعدى ذلك إلى مساعدتهم في تأسيس أول كيان يهودي لهم في مدينة طبريا، حيث تناولت المصادر اليهودية هذا الدعم بكثير من التفصيل، بينما حاولت المصادر العثمانية جاهدة نفي هذا الدعم، وتبرئة ذمة سليمان القانوني من هذه الخيانة، وهو ما يدفع إلى المزيد من البحث والتنقيب بين المصادر، لتسليط الضوء حول هذه النقطة الخطيرة، التي كانت لها إسقاطات خطيرة على التراكمات التاريخية التي أدت إلى التمهيد لهجرة اليهود نحو فلسطين.

  1. ستانفورد ج شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية (القاهرة: دار البشير، 2015).

 

  1. جعفر حسن، فرقة الدونمة بين اليهودية والإسلام ، ط3 (بيروت: مؤسسة الفجر ، 1988).

 

  1. أحمد النعيمي، الأقلية اليهودية والدولة العثمانية (بغداد: دار الشؤون الثقافية، 1990).

 

  1. إبراهيم العلاف، “دور الماسونية في الحياة الاجتماعية والسياسية التركية المعاصرة”، مجلة دراسات اجتماعية ، بيت الحكمة ، بغداد ، العددان (3،4)، (1999-2000).

 

  1. أحمد آق كوندز وسعيد أوزتوك، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العثمانية، 2008).