بدأت مُكتملة... وانتهت صورية تهكمية

"خلافة" من ليسوا خلفاء

كتابة “الخليفة” واقترانها باعتبارها لقبًا لأحدهم مخالفة شرعية في الإسلام في وقتنا الحاضر إلا أن تعود اشتراطات الخلافة إلى حيز التطبيق، وعلى ضوئه خطأ دنيوي يتماس مع تزوير التاريخ، وتضليل العامة وخدش للخلفاء الإسلاميين الذين نالوه بحق شرعي، وتقليل لمكانتهم لما فيهم من الميزات عن غيرهم من الساسة في التاريخ الإسلامي والعربي، ويذهب الأمر إلى مزيد من السوء و”الذنب” حين يطلبها أحد الساسة، أو من هو دونهم، فهكذا قالت القاعدة الشرعية الواضحة: إن من يطلبها -أي الخلافة- من الناس؛ يُعدُّ أقلِّهم كفاءةً وإدراكًا لمفهومها، وبذلك لا يصلُح لتوليها، فقد قال الله تعالى {تِلْكَ الدِّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلِّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوٍّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتِّقِينَ} (القصص: 83).
وفي الحديث الشريف عن أبي موسى قال: دخلت على النبي أحد الرجلين: يا رسول الله، أمِّرنا على بعضِ ما ولاِّك الله عزِّ وجلّ، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: “إنِّا والله لا نوليّ على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه”، ومن خلال هذه القاعدة؛ فإن الخلافة لا تؤخذ بالطَّلب ولا بالحرب والقتال، بل هي شورى بين المسلمين.

أول تطبيقٍ عمليٍّ للخلافة الإسلامية كان في عهدِ 661 م) رضي الله عنهم؛ إذ إنهم – 40 ه/ 632 – الخلفاء الراشدين ( 11 تولوها بالشورى، وطبقوا خصائصها الانتخابية والشوريِّة وحرصوا على أمانةِ بيتِ مالِ المسلمين، فلا يخرج منه ولا
يدخل إليه إلا ما نَصَّ عليه الشّرع.

أمَا ما بعد علي بن أبي طالب (توفي: 40هـ/ 661م) فقد حدث خلافٌ في مسألة أحقيِّة معاوية بن أبي سفيان (توفي: 60هـ/ 680م) بالخلافة، والآراء التي قضت بأن فترته كانت فترة خلافة إسلامية مكتملة، آراء مقنعة ومتوازنة، باعتبار أن الحسن بن علي تنازل لمعاوية عن الخلافة بعد مبايعته بها.

للخلافة بُعدان: ديني ودنيوي إن اجتمعـا وقعت، وإن افترقـا انتقضت

وبقي الأمرُ بعد ذلك خلافيٍّا في مسألة ولاية العهد للخلافة، وإجماع أهل الحلّ والعقد، وكل هذه الآراء والاختلافات حول الخلافة الإسلامية، تناولها الفقهاء والمختصون في السياسة الشرعيَّة بالبحث والمناقشة حتى توصّل أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي (ت: 450هـ/ 1058م) إلى سبعة شروط للخلافة ذكرها في كتابه العَلَم “الأحكام السلطانية والولايات الدينية” هي: العدالة، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام، وسلامة الحواس من السمع والبصر واللسان، وسلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، والشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو، والنسب وهو أن يكون من قريش، وهذه الشروط التي تجمع بين المقتضيات الدينية والمتطلبات الدنيوية تعد الأكثر اتفاقاً بين المجتهدين من أهل العلم، وهذا لا يعني عدم شرعيَّة أي رئاسةٍ أخرى وإن اتخذت أساليبًا في الحكم غير الخلافة، فالأهم أن تحقق مبدأ تطبيق الشرع، والحماية، والأمن، وغيرها من الضرورات التي من المفترض أن تكون عليها الحكومات الإسلامية، غير أن الخلافة الإسلامية كمنصب من الواجب توافر هذه الشروط السبعة فيه، وبذلك فإن الاختلال فيها يحولها من خلافة إلى حكومة.

تعريف الخلافة:

.. وخلف فلان فلاناً إذا جاء من ورائه فضربه، واستخلف فلاناً من فلان: جعله مكانه، وخلف فلان فلاناً إذا كان خليفته، يقال: خلفه في قومه خلافة، وفي التنزيل العزيز: {وقال موسى لأخيه هرون اخلفني في قومي} (الأعراف: 142). وشرعيًا يُعرَّف مفهوم الخلافة بالحكومة التي تحقق سياسة وإدارة الجماعة وفق الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكام الشرع، لذلك أشارت أماني صالح لتعريف الماوردي لمفهوم الخلافة بأنها خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، ومفهوم ابن خلدون بأنها خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وحَمْلْ الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية، وقد رأت أماني صالح بأن مفهوم ابن خلدون أحكم وأضبط.

ومن خلال هذا السياق فإن للخلافة بُعدين مهمين: ديني ودنيوي، وهذان البُعدان قد يتفقان أو يتفرقان، فإن اتفقا وقعت الخلافة إن جاءت بشروطها، وإن افترقا أصبح الحديث عن حكومة من دون خلافة، وفي الحالتين تقع حال كل الأمم الإسلامية، إما أن تسير بالخلافة أو الحكومة، ما دام الشرع مُقامًا، والناس مُساسين وفق ما يرتضيه الله.

الخلافة بين السنة والشيعة:

اختلط البُعدان الديني والدنيوي للخلافة كثيرًا في التاريخ، وراح العديد من المؤرخين يتحدثون عنها من خلال تصورات مختلفة، ومنطلقات موجهة في الغالب لتحقيق أفكار مُسبقة، فمُنح بعض الحكام والسلاطين المسلمين لقب الخلافة، وهم أبعد ما يكون عن البُعد الديني للخلافة، وبذلك تسرَّبت نظرية الحق الإلهي المقدس إلى الفكر التاريخي، وصار لقب الخليفة يُضفي هالةً من القداسة والعظمة، استخدمه بعض المؤرخين حتى تقاطعوا في تفخيمهم وتعظيمهم لمن منحوهم لقب الخلفاء مع الفكر القديم الذي يتحدث عن سلالات إلهية أسطورية.

وأكثر أزمة حيال مفهوم الخلافة كانت بين السنَّة والشيعة، إذ إن كل فريق له منطلقاته فيها، فالسنة كانوا يرون بأنَّ الخليفة يُنتخب بالإجماع، والشِّيعةُ يرون بأنه يتحدَّد بأمرٍ إلهيّ، وقد أشار علي الوردي (وهو من الشيعة) (ت: 1416 ه/ 1995 م) إلى ما هو أبعد من ذلك عند الشِّيعة، إذ يقول: إنهم يرون أن يُحدِّد الخليفةُ بالوحيِّ كما هو حالُ الأنبياء والرسل، وبذلك تتحقق له العصمة.وأكثر أزمة حيال مفهوم الخلافة كانت بين السُّنِّةِ والشيعة، إذ إن كل فريق له منطلقاته فيها، فالسُّنِّةُ كانوا يرون بأنِّ الخليفة يُنتخب بالإجماع، والشِّيعةُ يرون بأنه يتحدِّدُ بأمرٍ إلهيّ، وقد أشار علي الوردي (وهو من الشيعة) (ت: 1416 ه/ 1995 م) إلى ما هو أبعد من ذلك عند الشِّيعة، إذ يقول: إنهم يرون أن يُحدِّد الخليفةُ بالوحيِّ كما هو حالُ الأنبياء والرُّسُل، وبذلك تتحقِّق له العصمة.

مفهومها بين العربي والفرس يخضع لخلافات مذهبية

ويسوق الوردي كلامًا للهولندي رينهارد دوزي (توفي: 1300هـ / 1883م)، بأن السنة ينظرون للخلافة من خلال طبيعتهم البدوية التي تجنح للديموقراطية، بينما الشِّيعة متأثرون بنظرية الحق الإلهي المقدَّس والنظرة الفارسية الخاصة بذلك، لكن الوردي يتعارض مع ما نقله بأن هذا الاختلاف ليس بين الديمقراطية والعبودية، بل الاختلاف بين المذهبين على أساس الواقعية والمثالية فيما يخص مفهوم الخلافة.

وينطلق نقل الوردي عن دوزي ورأيه المُخالِف له من المنطلق نفسه ليُعيد فكرة الاختلاف بين الفريقين حيال الخلافة وغيرها إلى طبيعة الصراع القديم والأزلي بين العرب والفُرس، باعتبار تواؤم نظرة السنة مع طبيعة العرب ومعتقداتهم، ونظرة الشيعة الذين ينطلقون من نظرة فارسية بكل إرثها القديم، بعيدًا عن طبائع العرب.

الاتجاه إلى الحكومة:

بإلقاء ضوء على التطبيق العملي لمصطلح الخلافة يمكن القول بأن الخلافة طُبِّقت في عصر الخلفاء الراشدين بحسب ما هو وارد شرعًا، وكذلك مع معاوية بن أبي سفيان كان الأمر فيه ما يبرر انتقال الخلافة إليه، غير أنه بعد ذلك تغيَّر الأمر وانحرف عن مبدأ الخلافة الواضح، إذ اختلَّت الأمور بتسمية وليٍّ للعهد، حين أُخذت ليزيد بن معاوية البيعة في عهدِ والده، وقبل وفاته بأربع سنوات، ما يعني أنَّ الشورى والبيعة أصبحت محصورةً في خيارٍ واحد، ولم يبايع أهالي الشام والعراق والحجاز يزيدًا بعد أن قارنوه بغيره.

كما يمكن القول بأنه منذ مبايعة يزيد بالخلافة وحتى سقوط الخلافة العباسيَّة في بغداد سنة 656 هـ/ 1258م ) لم تكن الخلافة الإسلامية مكتملةً واضحة، بل غلَبت عليها المصالح الشخصية ) ت: ) Thomas Arnold والسياسية، وصارت ملامح فقط للخلافة الأولى، لذلك في حديث توماس أرنولد 1349 هـ/ 1930م) ما يصوِّر واقع الخلافة، إذ يرى أن ما قام به معاوية بن أبي سفيان من توريثٍ في الخلافة؛ أصبح سابقةً حتى الأزمنة الأخيرة من العصر العباسي، حيث يعلن الخلفاء عن أولياء العهد في أكبر أبنائهم أو خيرة أقاربهم، وبذلك يقدَّم لهم يمين الولاء والطاعة، ومن جهته يؤيد عبدالرزاق السنهوري (ت: 1391 هـ/ 1971م) ما ذهب إليه أرنولد، ففرّق بين الخلافة كنظام وواقع، حيث أشار إلى أن نظام الخلافة أصيب بالضعف على رغم قوة الدولة الإسلامية، ثم تدهورت الخلافة منذ نهاية عهد المأمون العباسي (ت: 218 هـ/ 833م) إلى السقوط على يد المغول. ومن باب أولى أن هذا التدهور ابتعد عن مفهوم الخلافة الحقيقي ونظامها الشرعي، وإن جاء تدريجيًا، إذ لم تكن الأمور في نظام الخلافة ومنصب الخليفة بعد يزيد بن معاوية كما أصبحت عليه في أواخر الدولة العباسية من وهنٍ وضعفٍ وسوء سياسة.

السمة الكبرى في هذا السرد التاريخي للخلافة أنه خلال الفترة التاريخية الممتدَّة من عصر الراشدين إلى سقوط الدولة العباسية؛ أن منصب الخليفة لم يخرج عن النسب، الذي يُعَدُّ شرطًا من شروط الخلافة، حتى في الفترة التي كان فيها منصب الخليفة صوريَّا في القاهرة في عصر المماليك إذ جرت الخلافة في نسب قريش من بني العباس، بعد أن أصبحوا تحت سلطة المماليك، وبعد أن دعا الظاهر بيبرس (ت: 675 هـ/ 1277م) عم آخر خلفاء بني العباس، أحمد بن الخليفة الظاهر الملقب بالمستنصر بالله (ت: 659 هـ/ 1261م)، الذي هرب من بغداد إلى القاهرة، حيث نُصِبّ خليفةً صوريًا فيها، واستمر هذا المنصب الصوري إلى سقوط دولة المماليك سنة ( 923 هـ/ 1517م) وكان عدد خلفاء بني العبِّاس في القاهرة (13) خليفة.

وأشار عدد من المؤرخين، منهم المقريزي (ت: 845 هـ/ 1441م) والسيوطي ( ت: 911 هـ/ 1505م) إلى أن الخلفاء العباسيين في القاهرة كما لو كانوا حجَّابًا لسلاطين المماليك، إذ كانت الهيبة والقوة والسياسة في يد المماليك، والخلفاء في مَعيَّتهم دومًا، ووصل الأمر إلى أن العباسيين لم يكونوا يملكون حق إبداء الرأي، ويقضون أوقاتهم بين الأمراء وكبار الموظفين يسامرونهم ويطلبون ولاءهم، حتى أن قلاوون المملوكي قبض على الخليفة المستكفي بالله سليمان بن الحاكم بأمر الله (ت: 740 ه/ 1340 م) وحبسه، وذلك يوحي بهوان الخليفة مقابل السلطنة، وهذا ما يدعم القول بأن الخلافة في القاهرة خلال عصر المماليك لم تكن تعكس الصورة الحقيقية لمنصب الخليفة شرعًا، فلم يكن ذلك إلا حفاظا على منصبٍ ارتبط به الناس خلال قرونٍ عدَّة، وبدأ يتلاشى أثره، وتتضاءل أهميته، حتى أصبح منصبًا شكليًا مع الوقت، يُمنح لمن يُقدِّم ولاءه وطاعته العمياء للسلاطين، وبذلك لا يختلف عن المناصب الدينية المختلفة، فحوصر مفهوم الخلافة حتى بات أمرًا روحيٍّا دينيٍّا ليس إلا.

لذا فإن منصب الخليفة مرَّ بمراحل مختلفة، إذ بدأ بأعلى هرم السلطة في التاريخ الإسلامي، ثم صار إلى حال عديمة القيمة، ذهبت جدواها، وفقدت بريقها، إذ تناقضت مع الأهداف والخطوط التي خُطَّت من أجلها، فأصبح الخليفة لا يقيم أمره فضلا عن أن يقوم به أمر الناس ومصالحهم، وأصبح مُدَّعوها مدعاة للسخرية والتهكم.

(1) أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك، ترجمة: أحمد إدريس (الكويت: دار القلم، 1978).

(2) أحمد المقريزي، السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق: محمد عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، 1997).

(3) أحمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح، باب ما يُكره من الحرصِ على الإمارة (7149) (بيروت: دار ابن كثير، 2002).

(4) أماني صالح، الشرعية بين فقه الخلافة وواقعها (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2006).

(5) توماس أرنولد، الخلافة، ترجمة: محمد العزاوي (بيروت: دار الوراق، 2016).

(6) جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء (بيروت: دار ابن حزم، 2003).

(7) عبدالرزاق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، تحقيق: توفيق الشاوي ونادية السنهوري، ط4 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 2000).

(8) علي الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تحقيق: أحمد البغدادي (الكويت: دار ابن قتيبة، 1989).

(9) علي الوردي، دراسة في سوسيولوجيا الإسلام، ط2 (بيروت: دار الوراق، 2019).

(10) محمد الشَّري، الخلافة في الدستور الإسلامي، تحقيق: محمد السماوي (بيروت: دار المرتضى، 2000).

(11) محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبوالفضل، ط2 (القاهرة: دار المعارف، د.ت).

(12) مسلم ابن الحجاج، صحيح مُسلِّم، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها (1733) (الرياض: دار طيبة، 2006).