شاهدة على صمود الأهالي وعبقرية الإمام فيصل بن تركي

معركة الدلم.. بسالة سعودية
وخسائر تركية

منذ أن اتخذ الإمام تركي بن عبد الله آل سعود، وابنه الإمام فيصل، الرياض عاصمة لهما، باتت محورَ الأحداث في العقود التالية لتأسيس الدولة الثانية، وحتى تأسيس المملكة العربية السعودية على يد المغفور له الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود.

ولذلك فإن معظم الأحداث بعدئذٍ دارت في الرياض أو حولها، كما جعل الأتراك الرياض هدفهم الأساسي لحملاتهم في حربهم على أئمة آل سعود الذين سطروا البطولة في تحرير بلادهم من ظلم الاحتلال التركي.

وكان محمد علي باشا يراقب عن بُعد تطورات الأوضاع، فقد توهّم للحظة أنه تمكّن من الاستيلاء عليها والقضاء على حكم آل سعود، ومن ثم وراثة الجزيرة العربية بكاملها، وأن نفوذه سيمتد إلى المياه الدافئة في الخليج العربي، لكن الهمّة والفروسية والإيمان بالحق، دفعت الإمامين تركي بن عبد الله وابنه فيصل إلى النهوض من جديد وقيادة الدولة السعودية الثانية.

وقد غضب محمد علي باشا من قدرة الإمام فيصل بن تركي على استكمال ما بدأه والده الإمام تركي في بناء الدولة السعودية الثانية، فأرسل قوة بقيادة خورشيد باشا، ونتجت عن تلك الحملة العسكرية معارك عدة، لكن أهم ما فيها أن الجيش العثماني ومرتزقته كانوا قد اكتسبوا شيئًا من الخبرة مكنتهم من التقدم في بعض المعارك.

دارت معارك عدة بين الإمام فيصل بن تركي والحملة العسكرية العثمانية بقيادة خورشيد باشا، وكان الإمام فيصل بن تركي يكافح ضد المحتل العثماني وأدواته، وفي الوقت نفسه يعزز تأسيس الدولة ويجمع الحلفاء والقبائل ويبعث بالعلماء والقضاة ويقرّهم على البلدات والمدن، لكن المحتل أرسل حملة عسكرية مكثفة بقيادة ابن أخت محمد علي باشا خورشيد باشا، الذي وصل على رأس قوة عسكرية ضخمة إلى  الرياض سنة (1838م)، بعدما تراجع الإمام فيصل بن تركي إلى الدلم، وحينها أرسل خورشيد تهديدًا إلى الإمام الشجاع يطلب منه الاستسلام وإلا فسيواجه الخراب، لكن الإمام المؤمن بربه وشعبه رفض وسار في شرف الجهاد مدافعًا عن وطنه وموطن آبائه وأجداده.

تحوّلت الرياض إلى هدف للأتراك بعد أن اتخذها الإمام تركي عاصمة لبلاده.

معركة الخراب

سار خورشيد باشا بجيشه وبالمتحالفين معه، إلى الدلم حيث يستعد الإمام مع أبناء شعبه للتصدي للمحتل الذي قطع البحار والصحاري ليقدم إلى موطنه ويحاول فرض سيطرته عليه.

ووقعت المعركة الفاصلة في أكتوبر (1838م) بين الجيش العثماني بقيادة خورشيد باشا المدعوم من بعض حلفائه، ضد قوات الإمام فيصل بن تركي بن عبد الله آل سعود، حاكم نجد المدعوم هو الآخر بقوات من أهل الحوطة والخرج والحريق ونعام وضرما وقبائل بني رشيد والقويعية والعارض، وإن كانت المعركة غير متكافئة إلا أنها واحدة من معارك الصمود والبطولات الكبرى وانتهت لصالح خورشيد باشا، ولم يرضخ فيها الإمام ولا أتباعه بل ناضلوا حتى آخر رصاصة، وآخر قطرة دم يستطيعون بذلها.

ويشير المؤرخون إلى أن الجيشين التقيا طوال نهار المعركة حتى غابت الشمس، لكن الإمام فيصل لم يتوقف بل ظل هو وجنوده يقومون بعمليات هجوم فوق الخيول مطلقين النيران في عتمة الليل على معسكرات العثمانيين ليتحول القتال من هجوم للعثمانيين إلى هجوم للسعوديين.

لكن خورشيد باشا استطاع آخر الأمر -بسبب كثرة الجند وتقدم سلاحه- أن يستوعب تلك الهجمات ويتصدى لهم بكمين ضد المهاجمين السعوديين، فوقعت الهزيمة في صفوف جيش الإمام فيصل بن تركي وقتل من الفريقين الكثير، حيث قدر قتلى العثمانيين وحلفائهم بنحو سبعمائة، ومن جيش الإمام فيصل نحو مائتي شهيد.

تكبّد العثمانيون خسائر كبيرة في معركة الدلم ولم ينقذهم إلا كثرة الجند والعتاد.

ووصف المؤرخ النجدي عثمان بن بشر، المعركة بقوله: “في سنة 1254هـ، سار خورشيد بعدده وعتاده من عنيزة، ومعه كثير من العساكر” المصرية والشامية – المرتزقة -، ونزل الوشم، ثم سار إلى الرياض، واستلحق عسكرًا له من عند القويعية، ثم رحل من الرياض وركب معه بعض أعوانه وسار جميعهم إلى الدلم، وفيها الإمام فيصل بن تركي، وقد ثبت لحربهم، فأقبلوا عليه، فلما نزل خورشيد بلد نعجان، فإذا أهلها قد هربوا منها بنسائهم وذراريهم إلى الدلم – وكان فيها الإمام – هاربين خوفًا من بطش الباشا، ثم عزل الباشا خورشيد جنوده من الترك والعرب وأقبلوا على الدلم صفًّا واحدًا، وجعلوا من معهم -من المرتزقة- ورواحلهم خوفا من الهزيمة.

“ثم نزل خورشيد في الخراب بعسكره، وهي بلدة قديمة قريبة من البلد، فأمر فيصل ببناء سور من البلد وحفر خندق، فلما تم السور حول البلد بنوا متارس على الماء”.

التضحية بالنفس

وكما فعل جدّه الإمام عبد الله بن سعود وضحى بنفسه من أجل بلاده، سار الإمام فيصل على النهج نفسه حين رأى حالة جيشه وما وصل إليه من التعب والقتال، كما أن كبار من معه قد راسلوا قادة خورشيد باشا يطلبون الأمان، فاضطر أن يكتب إلى خورشيد باشا بطلب الصلح ومن معه من الجنود وأن يحقن الدماء، وصالحه على دماء أهل الدلم وأموالهم وعلى من تابعه من أهل العارض وغيرهم، فأعطاه خورشيد باشا الأمان، على أن يخرج من بلاده ويتوجه إلى مصر لمقابلة محمد علي باشا فوافق.

وبذلك عاد احتلال العثمانيين من جديد لنجد عبر قوات واليهم على مصر محمد علي باشا، ليبدأ الإمام فيصل بن تركي رفقة أبنائه، عبدالله ومحمد وأخيه جلوي بن تركي، وابن أخيه، عبدالله بن إبراهيم بن عبدالله، وكانت تلك نهاية الفترة الأولى من حكم الإمام فيصل بن تركي، لتبدأ مرحلة انقطاع استمرت من (1838م) إلى السنة التي استعاد الإمام فيصل فيها سلطته وحكمه سنة (1843م).

  • عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط3 (الرياض: وزارة المعارف، 1974).
  • عبدالله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية (الرياض: مكتبة العبيكان، 1997م).
  • عايض الروقي، حروب محمد علي في الشام وأثرها في شبه الجزيرة العربية (مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 1994م).
  • سعود بن هذلول، تاريخ ملوك آل سعود (الرياض: مطابع الرياض، 1961م).