كانت قاعدةً مهمة لجيش الدولة في مواجهة غزاة التُّرك

"تربة" السعودية هزمت العثمانيين مرتين

كانت أوامر السلطان العثماني مصطفى الرابع من واليه على مصر محمد علي سنة (1807م) بتدمير الدرعية -عاصمة الدولة السعودية- مباشرة وصريحة؛ ذلك للقضاء على الدولة السعودية الأولى التي أحرجت العثمانيين. وهذا ما أشارت إليه وثائق دار الوثائق القومية المصرية، التي كشفت أن محمد علي باشا أرسل اعتذاره للسلطان عن عدم قدرته على تلبية طلبه بتنفيذ المهمة، للظرف الاقتصادي المتدهور الذي تمر به ولايته، وخشيته من أطماع الدول الأوروبية.

أغرى السلطان واليه محمد علي بأنه سيكون في مصلحة الدولة العثمانية، التي ستُنعم على ولايته وترفع مكانتها ومكانته باعتباره واليًا على مصر. ولم يكن أمام الوالي بعد الإلحاح إلا الاستجابة لرغبة السلطان بمهاجمة الدولة السعودية الأولى، التي  أرْدَتْهُم بأول هزيمة في وادي الصفراء (1812م)، وأجبرت قائد الحملة أحد طوسون على الفرار ومن تبقى معه من جيشه إلى ينبع طلبًا للمدد والمزيد من العساكر بعد خسارتهم عدتهم وعتادهم، ويشير المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي إلى أن طوسون أحصى جنوده الذين وصلوا إلى ينبع أحياءً بعد وادي الصفراء، فوجدهم قد بلغوا ثلاثة آلاف جندي بعد أن كانوا ثمانية آلاف.

معركة تربة الأولى:

وخلال فترة وجود طوسون في ينبع أمدوه بالمزيد من العساكر والعتاد من جديد، لذا تمكن من التحرك واحتلال مكة المكرمة سنة (1813)، وبعد ذلك بأسبوعين تمكَّن من احتلال الطائف.

كانت قوات الدولة السعودية الأولى وقتها قد تبنَّت استراتيجية عسكرية تتلخص في استدراج القوات العثمانية الغازية إلى داخل أراضي الجزيرة العربية حيث الصحاري والوديان، إضافةً إلى إبعادهم عن مراكز التموين وخطوط الإمداد، حتى يسهل هزيمتهم كما حدث لهم في وادي الصفراء، ويتحدث ابن بشر عن الحملة العثمانية الأولى على بلدة تربة بقوله: “فلما كان في شعبان من هذه السنة (1228ه/ 1813م) اجتمعت العساكر المصرية من مكة والطائف وسار بهم مصطفى ومعهم راجح الشريف في جموع من البوادي الذين نقضوا العهد وبايعوا الترك، فسارت تلك الجموع ومعهم المدافع والقنابر وقصدوا بلدة تربة، وفيها مرابطة من أهل نجد وغيرهم فحاصرها الترك ثلاثة أيام، ثم أقبل مدد من أهل بيشة وغيرهم لأهل تربة، فلما أقبلوا على الترك كمنوا لهم وناوشوهم القتال. فخرج كمين السعوديين على المحطة والخيام فانهزمت تلك العساكر والجموع، فاستولى السعوديون على محطتهم وخيامهم وقتل منهم قتلى كثر ورجعوا مكسورين”.

ويتبادر هنا سؤال عن أهمية بلدة تربة التي دعت القوات التركية الغازية لمهاجمتها بقوات كبيرة؟، وتتلخص الإجابة في أن تربة كانت تمثل قاعدة مهمة للسعوديين على الطريق الرابط بين الحجاز ونجد، فهي فعليًا بوابة الحجاز إلى نجد، ومركزًا مهمًّا كانت لضرب القوات العثمانية الغازية نحو أواسط نجد، لذا حرص مصطفى بك على القيام بحملة على تربة من أجل قطع الطريق على السعوديين في مقاومة تحركات جيش الحملة.

مركز القيادة الذي أداره الإمام سعود بن عبدالعزيز كان يوجه تحركات الجيش السعودي الذي سبق الأتراك في فرض أسلوبه واستراتيجيته.

يشير الفرنسي فليكس مانجان إلى أن الإمام سعود بن عبدالعزيز أمر ابنه فيصل بأن يسير على رأس قوة عسكرية وألا يواجه أعداءه إلا في تربة، وأن يُبقي قسمًا من قواته لتتحصن في بيشة، ويضع الهجّانة والفرسان في المضائق، بأسلوب يسهل معه قطع الطريق على القوات الغازية. وقد جعلت القيادة السعودية من تربة حصنًا حصينًا بانتظار قدوم الغُزاة ومواجهتهم.

وصل الغُزاة العثمانيون وفرضوا حصارًا على تربة ثلاثة أيام، لكن القوات السعودية صمدت داخل البلدة المحصنة، وكان لغالية البقمية دور في رفع معنويات المدافعين عن البلدة من رجال قبيلتها البقوم، حيث تذكر المصادر أنها خرجت على رأس فريق من رجالها لمواجهة الغزاة، وتزامن ذلك مع وصول المدد السعودي من جهات بيشة بقيادة عبد الله بن سعود وسالم بن شكبان.

التقى الطرفان في وادي السليم الذي دارت فيه معركة شرسة انتهت بطرد الترك وهروبهم إلى جهات الطائف يجرّون أذيال الهزيمة، مخلِّفين وراءهم من القتلى والغنائم الكثير، ونتج عن تلك المعركة أن عرف وادي السليم بعد المعركة بوادي “ريحان” لامتلائه بجثث القتلى من الجيش العثماني، وقد قُدِّر عدد القتلى بين الستمائة إلى ألف قتيل، وأشار مانجان إلى الهزيمة بقوله: “وخسر مصطفى بِك مدفعيته وأمتعته؛ وكانت هزيمته نكراء لا تقل عن هزيمة مضايق الصفراء”. 

معركة تربة الثانية:

بعد هزيمة العثمانيين النكراء في تربة، قرر محمد علي باشا إرسال حملة أخرى بقيادة طوسون قائد القوات في الحجاز، الذي انطلق في فبراير (1814م) بقواتٍ كبيرة، اختلف المؤرخون في عددهم بين خمسة آلاف مقاتل من المشاة وألف فارس وستة مدافع، و ما بين ثلاثة آلاف مقاتل بعدته وعتاده، واصطحب طوسون أبرز قادته مثل عابدين بك وتوماس كيث المسؤول المالي للحملة، وأحد الزعماء المحليين الموالين للعثمانيين، وقد كان في الوقت نفسه ناقمًا من تصرفات محمد علي باشا، ولكي ينتقم منه سلك بالحملة طريقًا طويلاً لتنفذ من خلاله المؤن وعانى العسكر والبهائم، إضافة إلى مخاطر الطريق وغزوات البادية عليهم.

وبعد تلك مسيرة العثمانيين المُنهكة تلك وصل طوسون وجيشه جهات تربة، وأصدر أوامره بمهاجمة البلدة، ولم يعط عساكره فرصةً للراحة، بل فرض الحصار أربعة أيام حسب ما ذكره ابن بشر، ولم يتمكن من الدخول إليها، وذلك للشجاعة النادرة التي أبداها المرابطون السعوديون الذين حافظوا على أسوار البلدة، تتقدمهم غالية البقمية بكل بطولة وبسالة نادرة، وازداد الموقف العثماني صعوبةً بعد انسحاب زعامات محلية موالية لهم، على رأسهم الشريف راجح الشنبري الذي قرر الانضمام إلى جيش الدولة السعودية المدافع عن تربة.

غالية البقمية أرهبت التُّرك بقوة السعوديين، وأعانتهم على الصمود في دفاعهم عن وطنهم.

حينها شعر طوسون ورجاله بعجزهم عن اختراق أسوار تربة، وباءت كل محاولاتهم بالفشل، وعندما قرر طوسون الهجوم بالقوة نبهه ضباطه إلى خطورة ذلك لنقص المؤن والذخائر، فاضطر إلى رفع الحصار عن البلدة والانسحاب ليلاً ولكنه مع ذلك تكبَّد خسائر كبيرة نتيجة هجوم المُدافعين السعوديين العنيف حين خرجوا من البلدة واستولوا على الطرق والممرات، فأربك المنسحبين ذلك وبدؤوا بالهروب لا يلوون على شيء إلا النجاة بينما كاد الجيش العثماني أن يهلك من ذلك الهجوم.

وفي تربة كرَّر السعوديون هزيمتهم للغُزاة التُّرك وإذلالهم، فأحدث ذلك ردَّة فعلٍ سلبية بين أفراد الجيش العثماني، الذي راح قادته وجنوده يرمون بعضهم بالتهكم وتعليق أسباب الهزيمة بينهم. كما كان لهذا الانتصار السعودي ردة فعل عنيفة في بلاد السلطان العثماني وواليه في مصر محمد علي. 

 

  1. بريدجز ، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005).
  2. دلال الحربي، غالية البقمية حياتها ودورها في مقاومة حملة محمد علي باشا على تربة (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2012).
  3. عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).
  4. عبد الفتاح حسن أبو علية، محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، ط2 (الرياض: دار المريخ، 1991). 
  5. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
  6. فليكس مانجان، تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية، ترجمة: محمد خير البقاعي (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز ، 2003).