جمال باشا
مهندس مسيرات "الموت"
ولد جمال باشا سنة 1872 في اسطنبول، والتحق بالأكاديمية الحربية وتخرج فيها سنة 1895، كان رجل سياسة أكثر منه رجل حرب، تدرج في مناصب قيادية وحربية عدّة، حتى أصبح واليًا على بغداد سنة 1911. شارك في حرب البلقان ثم عاد بسبب مرضه، وبعد انقلاب 1913الذي شارك فيه، تسلّم منصب الوالي العسكري لإسطنبول، ثم بعدها وزارة الأشغال، وعندما قامت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 عُيّن وزيرًا للبحرية، وأصبح قائدًا للجيش الرابع في منطقة الشام ومصر، وواليًا مطلق الصلاحية على سوريا وفلسطين ولبنان حتى عام 1917متخذًا من دمشق مقرًا لقيادته.
خدع العرب في بداية وصوله الشام، بالحديث عن إحياء التراث العربي واللغة العربية والمجد العربي، لكن!! كلّ أعماله أظهرت معاداته للفكرة العربية وخوفه منها، مما دفعه إلى نشر جواسيسه، وتتبّع أخبار رجالات الحركة الثقافية العربية.
لقد كان تتريك العناصر العربيّة أبرز سياسات جمال باشا التي قاومها الأحرار العرب، وتجاوز التتريك إلى التنكيل بالعرب، والفتك بزعمائهم، حتى أصبح مهووسًا بالإعدامات، وكأن السادية قد رانت على فؤاده؛ فلاحق المثقفين والقوميين العرب بالشام، ونصب لهم المشانق في بيروت ودمشق.
تلذذ بتعليق المشانق للعرب الأحرار
لقد كان الإرهاب والبطش من مبادئه، حتى خاف النّاس عندما رأوا صبيحة 21 آب 1915 الجثث المعلّقة، وشعر جمال باشا بالراحة لهذا الخوف، وأسرع في تلافي موجة السّخط العارمة الّتي حلّت بالّذين لم يصدّقوا أنّ من أعدمهم كانوا حقًّا خونة”، فقد كانت (مسيرات الموت) التي ضمت الأطفال والنساء والشيوخ تنتهي بإبادات وانتهاكات بمناطق قابعة تحت سيطرته كدير الزور بالشام.
أما سنة 1916 فقد كشف حقده على الفكر العربي وأعلامه بالرغم من مناداته للتوحد للنهوض بالتراث العربي وإحيائه حين قُتل فيها ظلمًا بأمر جمال باشا جملة من نخبة الكتاب وأهل الأدب من المسلمين والنصارى، فقد أعدم (21) شخصية عربية، من بينهم أعضاء في مجلس الأعيان العثماني دون محاكمة، وعلى رأسهم عبد الكريم الخليل ومحمد، ومحمود المحمصاني، ونور الدين القاضي، والأمير عمر الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، والكاتب رشدي الشمعة والشاعر الأديب شفيق بك مؤيد العظم، والشاعر رفيق رزق سلوم، والمفكر والصحفي عبد الحميد الزهراوي.
لم تكفِ بلاد الشام نهم استبداد السفاح جمال باشا الجامح فهدد الجزيرة العربية باختراق نجد بطابورين من جنده، فرد عليه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله- بأدبه وحلمه: “سنقصر لكم الطريق إِن شاء الله”.
زادت جرائم وزير البحرية عندما حصل على صلاحيات إضافية واسعة، فاقترف من الموبقات ما يندى له جبين الإنسانية، وأخذ يصادر المحاصيل، ويفرض الإعانات للجيش باسم التّكاليف الحربية، وضيَّق على الناس معايشهم؛ فعلى الرغم من معاناة اللبنانيين من نقص واضح في المواد الغذائية بداية سنة 1915 بسبب الحصار البحري المفروض عليهم وهجوم الجراد، تجاهل جمال باشا معاناة الأهالي فعمد إلى مصادرة محاصيلهم لإطعام جنوده متسبباً بذلك في تفاقم معاناة اللبنانيين وظهور مجاعة أودت بحياة نحو (200) ألف لبناني أي ما يعادل نصف السكان.
تعدّت جرائم جمال إلى التهجير القسري للجنود العرب، ونقلهم إلى مناطق بعيدة، مما أدّى إلى زيادة إحساس العرب العميق بالظّلم، فحشد جمال جنود الرعايا العرب بالقوة ليشن بهم هجمات متعددة على شبه جزيرة سيناء، محاولًا الاستيلاء عليها، لكنه خسر في كل الهجمات، وبعد هذه الهزائم والفشل الذريع استدعي إلى اسطنبول وبقي هناك إلى أن حان الوقت لهروبه خارج تركيا.
وعندما هُزم الأتراك في الحرب العالمية الأولى، استقال جمال باشا من الوزارة، ثم هرب هو وطلعت وأنور على متن إحدى السفن نحو الأراضي الألمانية، ومن برلين انتقل إلى سويسرا، وقد اتجه جمال باشا لاحقاً عقب حلوله بألمانيا نحو روسيا التي قامت فيها الثورة البولشفية وهيمنة الشيوعيين على الحكم.
"اللعنات" شيعته مقبورًا عام 1922
جرت محاكمة جمال باشا غيابيًا، حيث اتُهم بالمشاركة في إبادة الأرمن، وبقي الثأر من القادة الأتراك المسؤولين عن المجزرة يؤجج قلوب الأرمن، فكانوا يقتصون من المجرمين الأتراك متى ما سنحت الفرصة لذلك، وفي يوم 21 يوليو 1922 وفي العاصمة الجورجية تبليسي سقط جمال باشا برصاصات صائبة على يد ثلاثة من الأرمن، وهكذا كانت نهايته، تُشيّعه اللعنات.
(1) رغداء محمّد أديب زيدان، قضايا الإصلاح والنّهضة عند محب الدّين الخطيب، (بيروت: رسالة ماجستير من كلية الإمام الأوزاعي بيروت في الدراسات الإسلامية نوقشت في 25 ذي القعدة 1427هـ الموافق 16/12/2006م).
(2) طه عبد الناصر رمضان، “يوم قتل طالب المسؤول التركي عن إبادة 1.5 مليون أرمني”، (تونس، www.alarabiya.net. نشر في: 05 أبريل، 2019م: 10:43 ص GST آخر تحديث: 20 مايو،2020: 11:50 ص GST).
(3) مذكرات جمال باشا السفاح، ترجمة: علي شكري (بيروت: الدار العربي للموسوعات، 2004).
(4) هنري مورغنتو، مذكرات سفير أمريكا في الأستانة، ترجمة فؤاد صروف، (مصر: مطبعة المقطم، 1913م).