خير الدين أغا: نفى السلطان حبيب زوجته

فريحة هانم..

جارية ذهبت بعقل السلطان عبد العزيز

هي قصة الظلم المتكررة في كل زمان ومكان، فتاة بريئة وهبها الله الجمال، تحلم بمستقبل مشرق وقلب نقي وفارس أبيض يخطفها، فجأة يتحول كل شيء لكابوس، تجد نفسها في يد ظالم لا يهمّه سوى التهام لحمها وسجنها في قفص حتى لا يراها غيره، وقتها يتحوّل الجمال إلى نقمة، ويكتب التاريخ صفحة جديدة من صفحات ظلم الجبابرة.

ومنذ ظهور سلاطين العثمانيين وتحكّمهم في البلاد والعباد، لم يتوقف التاريخ عن كتابة قصص الظلم التي ملأت مجلدات، واستعبادهم الناس الذي بات مثلًا على مدى فجور بني عثمان.

في الفصل الثاني من مذكرات خير الدين آغا، رئيس الآغاوات في عصر السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م)، يروي خير الدين آغا، قصة ظلم جديدة بطلها هذه المرة السلطان عبد العزيز الأول (1830-1876).

لم يكن عبد العزيز الأول مختلفًا عن أجدداه، فكما وقع سليمان القانوني في غرام “روكسلانة” حتى ترك الجيوش وجلس بجوارها يكتب شعرًا، تكرر ذلك مع السلطان عبد العزيز الأول الذي فُتن بالجارية فريحة هانم رغم ارتباطها بعلاقة عاطفية مع شخص يدعى حسن بك قبل أن يتدخل عبد العزيز الأول وينفي هذا العاشق إلى اليمن للانفراد بحيبته.

“لا حب بدون حرية”، قاعدة تجاهلها سلاطين الترك، فالفتاة الجميلة التي عشقت وحلمت ببيت صغير وأسرة، وجدت نفسها فجأة داخل قصر الحكم بعد أن فارقها حبيبها جبرًا، فالألوان كئيبة والسجن مهما اتسع فإنه تضيق به الصدور، وبحسب البروتوكلات العثمانية الاستعبادية باتت فريحة هانم ضمن ممتلكات عبد العزيز الأول، الذي رغم كل نفوذه وسلطانه كان يُدرك من داخله أن تلك المرأة لا تكنّ له حبًّا، وكأي ظالم يُدرك عجزه أمام إرادة القلوب، تحول حبه إلى غيرة جنونيةٍ وتشككٍ دائمٍ، وكأنه يقول: إن لم تكوني لي فلستِ لغيري.

يدخلنا خير الدين آغا إلى تفاصيل تلك العلاقة التي كان هو أحد أطرافها بعد ذلك، ويقول إنه في بداية عهده بالقصور العثمانية كان يحمل رسالة إلى فريحة هانم وفجأة رأى رجلاً مهيبًا يصرخ بصوتٍ عالٍ: “أين الرجل”، وفريحة تؤكد أنه ليس هناك رجل، ووجّه الرجل سؤاله إلى خير الدين محذرًا إياه من الكذب، ومُصِّرًا على أنه كان هناك رجل غريب وأُخفي عنه، وأخبره خير الدين أنه لم ير رجلاً، وأنه رسول يحمل رسالة إلى فريحة هانم.

وهنا أدرك خير الدين أنه أمام السلطان عبد العزيز بنفسه؛ إذ لم تُتَح له فرصة رؤيته من قبل، وعرف خير الدين أن السلطان عبد العزيز يغار على فريحة هانم من حبيبها السابق، ودعته غيرته إلى أن يتخيل أنها تستقبل حبيبها السابق في مخدعها السلطاني!

ولم يرتح السلطان عبد العزيز إلا بعد أن أرسل رسالة إلى الوالي العثماني في اليمن ليتأكد أن غريمه لا زال في اليمن، إذ إن السلطان عبد العزيز كان قد أبعَد الرجل إلى اليمن حتى تنساه فريحة هانم.

أصيب عبد العزيز بالهلوسة، وتخيل الرجال مع حبيبته.

لكن هذا المشهد السينمائي لم يكن هو الوحيد الذي يلخص قصة عبد العزيز الأول مع فريحة هانم، إذ يكشف لنا خير الدين آغا في مذكراته “أسرار الحريم في البلاط العثماني”، إنه بعد تلك الواقعة أراد عبد العزيز الأول إرضاء فريحة هانم فأقام لها حفلة سلطانية من تلك الحفلات باهظة التكاليف إذ استنزفت موارد المسلمين، ودعا إلى الحفلة كثيرًا من الشخصيات العامة، وبحسب تعبير خير الدين آغا، فإن هدف الحفلة ليس إرضاء لفريحة خانم فقط بل “إجبار كل نساء القصر على تقديم احترامهن لها”.

وكحكايات ألف ليلة وليلة، في نفس الحفلة تحدث مفاجأة أخرى بطلها الشك، فعين السلطان عبد العزيز الأول التي لا تغفل فريحة هانم، إذ لاحظ السلطان أثناء الحفلة كما لاحظ غيرُه من مئات الراقصات والضيوف أن “هانم” لا ترتدي ميداليتها التي لا تفارق عنقها ليل نهار، وفجأة غلت الدماء في العروق وانتفض السلطان كالمجنون يهذي صامتًا بأن محبوبته منحت تلك الهدية لحسن بك المنفي في هذا الوقت!

وتتصاعد الأحداث أكثر فأكثر، ويُقلب القصر العثماني رأسًا على عقب، إذ ترك وقتها أمور الرعية والحكم والجيوش وتأمين البلاد، فالأهم عنده في تلك اللحظة العثور على الميدالية حتى يبرد قلبه ، حتى لا يشعر أن هناك من صفعه، وهنا يأتي دور خير الدين آغا الذي ربطته علاقة قوية مع فريحة هانم إذ وجدت فيه آغا طيبًا، وأثناء عملية البحث التي كُلف بها كل العاملين بالقصر، وجد خير الدين آغا الميدالية لكن بداخلها صورة حسن بك حبيبها السابق، هكذا يعيش الحب رغمًا عن ظلم سلاطين الترك.

احتفظت فريحة هانم بصورة حبيبها رغم حب السلطان لها.

لكن الأزمة باتت أصعب وشكوك السلطان بأن هناك من صفعه تأكدت، وهنا تتدخل فريحة هانم وتعقد صفقة مع خير الدين آغا باستبدال الميدالية بأخرى ليس عليها صورة حسن بك وهو ما حدث وجرى ترتيب العثور على الميدالية مرة أخرى حتى يظهر الأمر صدفة أمام العاملين بالقصر.

ونجحت الخطة التي نفذها خير الدين آغا وصدق السلطان عبد العزيز الأول الأمر حتى اعتذر لفريحة هانم وحاول استرضاءها بكل الطرق ووعدها بضرب كل أعدائها بشدة طالبا منها تقرير العقوبة التي تريدها.

فما كشفه خير الدين آغا في مذكراته ليس أكثر من نموذج للحياة داخل القصور العثمانية، سلطان مُصاب بالشك الجنوني، جارية لا تحب سلطانها وتحيك المؤامراة للنجاة بنفسها بعد أن حُرمت من حبيبها وسجنت في قصور بني عثمان، وآغاوات يٌستخدمون في تنفيذ المؤامرات، وهذا النموذج تكرر كثيرًا باختلاف الأسماء والتفاصيل لكن الأكيد أن الكراهية سادت قصور بني عثمان والخداع كان مذهب من في القصر أما الرعايا فليسوا في الحسبان مطلقًا.

تحالفت فريحة هانم مع خير الدين آغا لخداع السلطان عبد العزيز.

  1. مذكرات خير الدين آغا (رئيس الآغوات في عهد السلطان عبدالحميد الثاني)، أسرار الحرم في البلاط العثماني (بيروت: مكتبة السائح، 2016).