خلال ثلاثة قرون ختمها المؤسس الملك عبدالعزيز بتطهير الجزيرة العربية من الترك

السعوديون كانوا مثالاً للعرب في رفض الاستعمار العثماني

ظل العثمانيون مصرين على احتلال الحجاز، باعتبار وضع أيديهم عليها يُعد تسويقًا شرعيًّا لهم في العالم الإسلامي، يضمن لهم مشاريعهم الاستعمارية في المنطقة، على الرغم من افتقادهم المرتكزَ الشرعي الذي يسوِّغ سياسة التمدد التركي، ومن ثمَّ رأى هؤلاء أن ذلك يمثل صك الشرعية لمواصلة التمدد شرقًا وغربًا وجنوبًا، وهو الهدف الاستراتيجي الذي حاولوا -منذ احتلالهم للعالم العربي سنة (1517)- الحفاظ عليه بفرض القوة والشراسة ضد أي محاولة تحرر من ظلمهم وجبروتهم وفاشيتهم.

في هذا السياق، اعتبر العثمانيون الحجاز مركز الثقل الديني ومصدر الشرعية السياسية لمشروعهم التوسعي ومن ثم قاوموا أية محاولة لاستقلال المنطقة عن استعمارهم، وجعلوا من الاحتفاظ بها أولوية على باقي مناطق الجزيرة العربية التي عاش أغلبها على هامش الإمبراطورية العثمانية، باستثناء ما يضفي لهم فائدة استراتيجية أو اقتصادية بما تقتضيه مصلحتهم والمرحلة التي يمرون بها. وهذا ما يُفسِّر تأخر الكثير من المناطق العربية، إذ لم تكن في أجندة العثمانيين الأتراك سوى محطة استحلاب واستنزاف اقتصادي واستراتيجي وإمبراطوري، وأي منطقة لا تحقق لهم مكاسب يهملونها ويجعلونها تصارع ظروفها الطبيعية والسياسية من دون أي اهتمام. 

وفور إحساس العثمانيين بقرب حرب عامة، وتحرك استعماري أوروبي في المناطق التي يستعمرونها هم في العالم العربي، سارع الباب العالي إلى محاولة التعاطي مع العرب بلغة ناعمة، وإقناعهم بالانخراط إلى جانب العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918).

غير أن الذي لم يحسب له الأتراك العثمانيون حسابًا؛ أن الذاكرة العربية حينها كانت موجوعة وملطخة بدماء عرب كثر ممن دهسهم المشروع التركي وقتلوا من غير ذنب، سوى أنهم كانوا ضمن سياسة استعراض القوة من خلال الولاة والمرتزقة الذين تبعث بهم الدولة العثمانية بين حينٍ وآخر إلى العالم العربي. لذلك وقفت أغلب البلدان العربية ضد العثمانيين، ولم تنطلِ عليهم راية الإسلام التي يظهرها العثمانيون في وقت ضعفهم ويتناسونها وقت جبروتهم وسطوتهم.

لم يتوقع العثمانيون أن ينجح الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود (طيب الله ثراه) في طردهم وهزيمتهم في مناطق نفوذه وتمدده في بدايات مرحلة التوحيد الوطني، ما مثل صدمةً كبيرة في إسطنبول، وتسارعاً للأوضاع لم يكن يتوقعه الأتراك، على اعتبار أنهم كانوا يرون في عرب الجزيرة خزانًا عسكريًّا مجردًا للحرب الكونية التي دخلها العثمانيون، والتي لم يكن للعرب فيها ناقة ولا جمل، اللهم إلا لعبا على حبل التوازنات للانعتاق من نير الاستعمار العثماني الغاشم.

وقد باءت المحاولات التي قام بها جمال باشا السفاح بالفشل في محاولة كسب ود العرب لجانب دولته التي كانت تحتضر خلال الحرب العالمية الأولى، حيث رفض عرب الجزيرة العربية كغيرهم الاصطفاف إلى جانب العثمانيين الذين رأوا في الإعلان والتسويق “للجهاد المقدس” واستغلال اللاشعور الجماعي للمسلمين من أجل ترسيخ استعمارهم وتسلطهم.

تعامل العثمانيون مع العرب باعتبارهم خزانًا عسكريًّا في الحرب العالمية الأولى.

من هذا المنطلق، اعتقد العثمانيون أن دخولهم الحرب وإعلان شيخ الإسلام لديهم الجهاد المقدس، سيساعد دولتهم على استرجاع مجموعة من الأراضي التي تحررت منهم، وسيساهم في عودة مصر وباقي المناطق العربية إلى استعمارهم من جديد، وهو ما يؤكد على أن الأتراك، رغم استعمارهم المباشر للمنطقة العربية لقرون، إلا أنهم لم يستوعبوا البنية السلوكية العربية، التي ترفض الخضوع للاستعمار، حتى لو ادعت دولتهم الخلافة المزعومة، واللعب على وتر العقيدة.

شكلت أحداث سنة (1916) استمرارًا للرفض العربي للاستعمار التركي، الذي أطلق السعوديون شرارته الأولى منذ عصر الدولة السعودية الأولى، وتوالى الرفض السعودي للاحتلال التركي ومقاومته في الدولة السعودية الثانية ومع المؤسس الملك عبدالعزيز، الذي نجح في تحرير أرضه من هذا الاحتلال، وتشجع مع السعوديين العرب كافة لتحرير أراضيهم، مستغلين عاملي المفاجأة وانشغال العثمانيين بالقتال على مجموعة من الجبهات. غير أن البُعد الترويجي للعثمانيين في الحجاز دفعهم إلى تدبير هجمات مضادة من خلال مجموعة من التدابير، وعلى رأسها المدينة المنورة التي وصلتها الإمدادات في العدة والعتاد والذخيرة والجنود.

كما سعى العثمانيون إلى تغيير ولاتهم في البلدان العربية التي لا زالت تحت وطأتهم آنذاك، وحاولوا جعل المدينة المنورة مركز ثقلٍ لهم مقابل ما يقلقهم في مكة المكرمة، وتحقيقًا لذلك أرسلوا واليًا من إسطنبول وهو الشريف حيدر، الذي حاول أن يحقق السياسة التركية.

وما أن حول العثمانيون المدينة المنورة إلى مدينة عسكرية حشدوا فيها قواتهم وأسلحتهم حتى أعملوا أسلحتهم في أجساد العرب وأبادوا صغيرهم وكبيرهم في مشاهد تقشعر لها الأبدان.

وبعد أن حول العثمانيون المدينة لمنطقة عسكرية، حاولوا اتخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير التي يطمحون لإعادة سيطرتهم من خلالها على الحجاز كافة، ومنها مكة المكرمة، لكن كل محاولاتهم فشلت رغم إرسالهم لأشرس قادتهم وأشدهم بطشًا وقسوة فخري باشا، حتى فُرض عليهم الاستسلام سنة (1919م).

  1. أمين سعيد، الثورة العربية الكبرى (القاهرة: مطبعة عيسى البابي، د.ت).

 

  1. عماد يوسف، الحجاز في العهد العثماني 1876-1918م (بغداد: الوراق للنشر، 2011).

 

  1. عبدالرحيم عبدالرحمن، تاريخ العرب الحديث والمعاصر، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1990).

 

  1. تركية الجارالله، موقف الملك عبد العزيز من الحرب العالمية الأولى (رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، 2004).

لذلك لم يُعر رسائل فخري اهتمامًا... وأبدى استياءه من جرائمه

كشف المؤسس سياسة العثمانيين التي تقتات على نزاع القوى المحلية خلال الحرب العالمية الأولى

دخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب حليفتها ألمانيا ضد إنجلترا وفرنسا، وترتب على ذلك انتقال دوائر الصراع والمواجهة إلى المنطقة العربية؛ نتيجة التنافس الدولي على المنطقة، والشعور بقرب زوال الدولة العثمانية، ومن ثم ازدياد الأطماع في تركتها.

وجد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود نفسه في موقف اتخاذ القرار الحاسم؛ فالقوى الدولية تتمدد بالقرب، ومن ضمنها الدولة العثمانية، وبناءً عليه فإن أي موقف سيتخذه بالانحياز لأي أطراف الحرب سيؤثر حتمًا على موقف حدوده ودولته التي كانت في مرحلة التوحيد الوطني للجزيرة العربية، خاصةً أن بريطانيا باتت على مقربة من الحدود السعودية بسيطرتها على بعض الخليج العربي. لذلك التزم الملك عبد العزيز سياسة الحياد، وعدم المغامرة بشكل مباشر في الحرب لأيِّ طرفٍ من أطراف الحرب.

الموقف الذي اتخذه المؤسس يصعب على غيره تطبيقه حتى لو أراد التزام الحياد، لا سيما أن أطراف الحرب كانت تسعى لجذب القوى السياسية القريبة منها بالضغط المتواصل، غير أن الملك عبدالعزيز (طيب الله ثراه) كان رجلاً استثنائيًّا في زمنٍ استثنائي، استطاع أن يقود الدِّفة بكل اقتدار، وفي الوقت نفسه استطاع استكمال توحيد أرجاء الوطن، وحمى حدوده بسياسة منع تدخلات الأطراف الدولية المتصارعة خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، بل بتطهير أرضه من الدولة العثمانية، إحدى أطراف الحرب، وهنا حرر الأرض في الوقت الذي استُعمرت فيه أراضٍ أخرى قريبة.

حكومة الاتحاد والترقي في الدولة العثمانية كانت تسعى إلى إحكام قبضتها على الأراضي العربية والحفاظ على استعمارها، لا سيما في الجزيرة العربية التي كانت تمثل الدعاية السياسية لها بالحرمين الشريفين لدعم موقفهم في العالم الإسلامي، وأيضًا قطع طريق البحر الأحمر في وجه بريطانيا، هذا الطريق المهم المؤدي إلى الهند درة التاج البريطاني. من هنا عملت الدولة العثمانية على إرسال حملة عسكرية تركية إلى سيناء لكي تصل إلى قناة السويس لتحتلها وتقطع الطرق البحرية على إنجلترا. ومن ناحية أخرى قامت بتعيين أحد أهم وأشرس القادة العسكريين “فخري باشا” حاكمًا على المدينة المنورة ومسؤولاً عن بسط النفوذ العثماني في شبه الجزيرة العربية.

دارت المراسلات بين فخري باشا والملك عبد العزيز من أجل توريط الملك عبدالعزيز في الحرب الدائرة، غير أن المؤسس حافظ على حياده ولم يرد إدخال بلاده في أتون الحرب الدائرة. ومن ناحية أخرى فإن المؤسس لا يثق في رجال الاتحاد والترقي ولا في دولتهم العثمانية التركية التي لا تحتفظ الذاكرة العربية لها إلا بصورة القهر والظلم والبطش واستنزاف القدرات العربية، لا سيما أن المؤسس كان يعي جيدًا حينها أن العثمانيين في الوقت الذي يحاولون فيه جرَّه إلى حربهم الخاسرة كانوا يدعمون خصومه في الجزيرة العربية بنحوٍ مباشر، ويعملون على التحريض ضده، لإضعافه من جهة، ولدفعه إلى طلب تدخلهم، والانضواء تحت جناحهم من جهةٍ أخرى؛ لذلك لم يستجب الملك عبدالعزيز للمراسلات العثمانية، ولا لضغوطها من خلال دعم الخصوم.

الملك عبدالعزيز كان أكثر إدراكًا استراتيجيًّا للتوازن السياسي من دولة الترك التي عمَّرت ستة قرون من البطش والاستعمار.

عندما ضُيِّق الخِناق على فخري باشا في المدينة المنورة طلب المساعدة من الملك عبدالعزيز مستغلاً الصراع الدائر بين القوى المحلية، غير أن المؤسس التزم الحياد لوعيه التام بأن السياسة العثمانية تقتات على توازن القوى المحلية في الوقت التي كانت تتلاشى فيه وتضمحل، لا سيما بعد الضربات التي تلقوها من الملك عبدالعزيز في نجد والأحساء. كما أن المؤسس كان منشغلاً في جبهات عدَّة في مرحلة التوحيد، ويعمل على توازن دولي يمر بمنعطف مهم من تاريخ المنطقة، وإلا فإن فخري باشا وما فعله بالمدينة لم يكن مقبولاً من السعوديين لما يفعله بجزءٍ مهم وغالٍ من وطنهم، لذلك لو قدر لفخري البقاء لفترة أطول لاقتلعته القوة السعودية كما فعلت مع جميع الذين حاولوا التعدي على حدود الوطن. كما أن الملك عبدالعزيز كان مستاءً وغاضبًا من جرائم فخري باشا في المدينة المنورة.

وبحسب المصادر التاريخية فإن الملك عبدالعزيز كان على معرفةٍ بمرامي فخري وحكومته، لذلك تحاشى الاستجابة لرسائله؛ لأن المؤسس هدفه المقبل استرداد الحجاز ضمن توحيد الأرض السعودية، ولم يكن ذلك ببعيد عن نهاية الحرب العالمية الأولى سنة (1918)، إذ استسلمت الحامية العثمانية في المدينة المنورة وجلت عنها بعدها، حيث استُردت المدينة النبوية لوطنها السعودي سنة (1925).

  1. أمين الريحاني، تاريخ نجد وملحقاته، ط 5 (الرياض: منشورات الفاخرية، 1981).

 

  1. تركية الجارالله، موقف الملك عبد العزيز من الحرب العالمية الأولى (رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، 2004).

 

  1. حافظ وهبه، جزيرة العرب في القرن العشرين (د.م: لجنة التأليف والترجمة، 1935م).

 

  1. خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، ط3 (بيروت: دار العلم للملايين، 1985م).

 

  1. عبدالرحيم عبدالرحمن، تاريخ العرب الحديث والمعاصر، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1990).

 

  1. عبدالله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية (الرياض: مكتبة العبيكان، 1995م).
تشغيل الفيديو

حين التزم الحياد رغم مرارة الذاكرة التاريخية

أخلاق الملك عبدالعزيز ومروءته في الحرب العالمية الأولى كانت مخالفة لسوء العثمانيين وسياستهم الخبيثة

في العام (1915) كانت الحرب العالمية الأولى تطل على العالم بمنظرها الكئيب، بكل شرورها وآلامها، فالعثمانيون الذين اعتمدوا كثيرًا على سمعتهم السابقة باعتبارهم إمبراطورية وصل نفوذها إلى وسط أوروبا بدأت تنحسر وتتحول إلى الرجل المريض، كما أنها لم تفلح في البقاء في منطقة الحياد بين دول المحور والحلفاء، وكان انخراط العثمانيين في الحرب كمن قتل نفسه بنفسه، والأقاليم التي استعمروها كانت تنسلخ منهم واحدة تلو الأخرى، فضلا عن الدول التي تخلوا عنها طواعية في صفقات فاشلة من أجل الحفاظ على إمبراطوريتهم العثمانية الآفلة، فليبيا وتونس والجزائر باعها العثمانيون لفرنسا وإيطاليا، وفلسطين للإنجليز، ولم يكن ذلك إلا ثمنًا يسيرًا للجرائم الكبرى والمغامرات غير المدروسة التي قام بها العثمانيون، وعدم فهمهم العميق لتذمر الشعوب التي أنهكها احتلالهم، وأصبحوا يتوقون للنجاة من هيمنة الباشوات والسلاطين وأدواتهم المحلية.

السعوديون… شعلة الأمل

في وسط الجزيرة العربية وعلى أعتاب العام (1916) كان الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود قد استرد نجد والأحساء، في طريق توحيد أجزاء الوطن التي كان المؤسس يعمل عليها في أطراف الجزيرة العربية، تلك الإنجازات السريعة التي حققها الملك الشاب دفعت الدول العظمى والإقليمية المحيطة بالجزيرة العربية إلى الالتفات إلى نفوذه وحجم إنجازه السريع الحاسم، ولذلك استطاع الملك عبدالعزيز تحقيق اعترافات البريطانيين والعثمانيين بنفوذ دولته الناشئة.

السياسة المحورية لدى المؤسس غلبت تمدد القوى الدولية، وحافظت على مكتسبات الوطن خلال مرحلة التوحيد.

الأوضاع في الجزيرة العربية وتداعيات الحرب العالمية الأولى

أضحت المدينة المنورة بين عشية وضحاها مسرحًا لثالثة معارك التحرير العربية ضد المحتل العثماني (1914) وما بعدها، فبعدما استطاع الملك عبدالعزيز توحيد القصيم والأحساء وطرد العثمانيين منهما، ألهم نصره العظيم العرب في جميع الأرجاء وحفزهم لسرعة التخلص من المحتل العثماني، لذلك تحولت المدينة المنورة إلى ساحة معارك استمرت طويلاً مع العُنْصُرِيِّ التركي فخري باشا، وانتهت بطرده وحاميته التركية من الجزيرة العربية.

الملك واستراتيجية الوحدة

بقي الملك عبد العزيز على مواقفه المركزية التي تأسس وتربى عليها وعمل من أجلها، فقد كان وحدويًّا عربيًّا قبل أي شيء آخر، يؤمن بأن أبناء الوطن هم من يجب أن يديروا شؤونهم، وهم من يحلون اختلافاتهم ومشاكلهم دون تدخل الأجنبي في بلادهم، لقد كانت كل جهود المؤسس ومعاهداته ومراسلاته وتحالفاته تبني كل يوم لبنة جديدة في طريق توحيد الوطن السعودية في الجزيرة العربية. لذلك لم يستسلم لمحاولات العثمانيين جرّه في حربهم الخاسرة وتحالفاتهم الضعيفة، في الوقت الذي كانوا يحاولون فيه تعطيل المشروع الوطني السعودي بدعم خصومه وأعدائه من كل جانب.

استشراف المؤسس للمستقبل

جنَّب الملك عبدالعزيز وطنه ويلات الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، مُشكلاً موقفًا يحمي فيه أبناء وطنه ويوحد كلمتهم، فقد بعث المؤسس رسائل عدة إلى الولاة والحكام المحليين في الجزيرة العربية، يدعوهم إلى رأيٍ واحد بعد التطورات والتداعيات الخطيرة إثر قيام الحرب العالمية، لكن أحدًا لم يستجب، وكانت الردود متباينة متضادة تقدم المصلحة الذاتية والموقف الشخصي للقوى المتصارعة، ولا تذهب بعيدًا نحو المصلحة العامة، كما كان يريد الملك عبدالعزيز بما يصب في مصلحة الوطن كافة.

يصف المؤرخ خير الدين الزركلي تلك المبادرة الثاقبة التي قام بها الملك عبدالعزيز “لم تفلح الدعوة، لكن تفتحت لها أنظار من يعرفون قيمتها، فبادر الإنجليز إلى إبلاغ الملك بأنهم جيرانه وأنهم يرغبون في التفاهم معه، وأرسل الألمان عن طريق حلفائهم العثمانيين رسائل مشابهة، ومع ذلك احتفظ عبد العزيز بحياده”.

محاور سياسة المؤسس:

أولاً: في المحور الداخلي؛ بدأ الملك عبدالعزيز في تعزيز سلطته على نجد والأحساء، واستتباب الأمن فيهما بعدما كانت عرضة للفوضى والفشل تحت إدارة العثمانيين في القصيم والأحساء، وحوَّلها إلى أُنموذج للاستقرار السريع دفع البلدات والقبائل والأقاليم الأخرى لمراسلته والانضمام تحت لوائه.

ثانيًا: أما محور الجزيرة العربية بمفهومها الواسع فقد وقف الملك مع جيرانه موقف الحكمة والنظرة البعيدة، لكن تصرفاتهم وأخطاءهم الجسيمة ومواقفهم السياسية الهشة مكنت الملك الشاب المؤمن بالوحدة خيارًا لا بديل عنه إلى استرداد الأقاليم السعودية كافة.

ثالثًا: من حيث المحور الدولي، فقد كان الملك عبدالعزيز قارئًا مُلهَمًا للسياسة الدولية وتغيراتها، وعرف كيف ينتقل ببلاده في دروب الظروف الدولية الوعرة خلال توازنات الحرب العالمية الأولى وبعدها، خاصة أن الحرب كانت كونية لا قبل لوطنه ولا للعرب كلهم بها، تلك الدول العظمى كانت لها طرق إمداد ونفوذ تحيط بالجزيرة العربية، وأي اصطدام بها أو الوقوع في إشكالٍ معها يعني المغامرة والدخول في مواجهة لا قبل لأحد بها.

العثمانيون حاولوا تعويض خسائرهم في أوروبا والقوقاز وأرمينيا بالاندفاع نحو الجزيرة العربية، وإبقائها تحت احتلالهم، بينما كانت الجزيرة تحاول الانعتاق والنهوض من كبوة استمرت قرونًا من الزمن تحت وطأة الاستعمار العثماني، وجزءٌ من تلك الجهود العثمانية كان موجهًا نحو النفوذ البريطاني عدو الألمان، ولذلك دفع الأتراك ثمنًا باهظًا لتحالفهم مع الألمان، ولعدم إدراكهم عواقب الأمور وعدم تقييمهم الأحداث فقد اختاروا الطرف الخاسر في معظم حروبهم ومنها الحرب العالمية الأولى.

حاول العثمانيون إيقاع الملك عبدالعزيز للانخراط معهم في الحرب العالمية الأولى ضد الحلفاء، ودعم المجهود العسكري العثماني، وراسلوا ولاتهم والحكام المستقلين، لكن ذلك جاء متأخرًا جدًا فقد تغول الأتراك في دماء العرب كثيرًا، وتعاملوا بالبطش والجبروت، وكان عليهم أن يدفعوا فواتير تسلطهم على الأمة العربية وما عانته من ويلات المرتزقة والمحميات التركية.

كان الموقف الدولي وتعقيداته وارتهان المستقبل به صعبًا على الساسة، أما الملك المؤسس فبلاده بدأت للتو تلملم أطرافها، ولا تزال بقية الأقاليم تعيش في فوضى أو مرتهنة لولاة عثمانيين تعمهم الفوضى وقِلَّة الإدراك، وهو في سعيه لاستعادة ملكه كان يدير الأمر بكثير من الحصافة والصبر والدهاء، وهنا تبرز الحكمة في التعامل مع كل موقف على حده، فلا تفريط في المكتسبات، ولا اندفاع مع أحد، وفي الوقت نفسه رغم ضعف الدولة العثمانية، لم يحارب الملك عبدالعزيز السلطنة، ولم يقف في صف الحلفاء، بل تعامل معها بما تقتضيه مصلحة بلاده وشعبه في الأقاليم التي استردها، وخلال فترة الحرب بقي الملك محايدًا رغم المرارة التي تجرعها الجميع من المحتل العثماني، لكن الملك تعامل معهم طوال فترة الحرب العالمية الأولى بأخلاقه لا بأخلاقهم.

  1. أمين الريحاني، تاريخ نجد وملحقاته، ط 5 (الرياض: منشورات الفاخرية، 1981).

 

  1. تركية الجارالله، موقف الملك عبد العزيز من الحرب العالمية الأولى (رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، 2004).

 

  1. حافظ وهبه، جزيرة العرب في القرن العشرين (د.م: لجنة التأليف والترجمة، 1935م).

 

  1. خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، ط3 (بيروت: دار العلم للملايين، 1985م).