ناصر خسرو نموذجًا

اجتهد الفرس في الترويج لمصنفات وكتابات عرقيَّة حاولت التقليل من العرب

مرت الأجندة الفارسية ضد العرب منذ فترةٍ مبكرة بمراحل وتحوُّلات، حيث انتقلت من مسرح الحروب إلى صفحات الكتب. وبذلك انتقل السلوك العدائي إلى مستوى الإنتاج الأدبي، ما يؤكد استدامة الحال النفسية العنصرية، وعقيدة الاستعلاء العرقي التي تتنافر مع المبادئ الإنسانية، وتلفُظُها الفطرة السَّوِيَّة.

في هذا السياق، اجتهد الصفويون في الترويج لمصنفات وكتابات دون غيرها، بقصد تحويل مظاهر طبيعية إلى جزء من نظرة الفرس للعرب وتكريس دونية العرق العربي، الذي أخرج الفرس من ظلمات الجهل ومدارك الجاهلية إلى الإسلام. وإذا كان المسلمون عامة قد تمرسوا على السفر والتنقل لأداء فريضة الحج أو مزاولة التجارة، ومنهم من عكف على التحصيل العلمي، فإن بعضهم استغل تنقلاته في رصد معالم البلدان وعوائد الأمصار ومقارنتها بالبيئة التي عاش فيها.

وبعض المحسوبين على الفرس، ابتعدوا عن المعطى الموضوعي وأوغلوا في الذاتية التي وجهتهم نحو رسم صورة سلبية عن العرب، واستغلالها في تكريس عقيدة عنصرية استعلائية ميزت تعامل الفرس ونظرتهم لباقي الأعراق والأجناس.

ومن ذلك كتاب “سفر نامة” لمولفه ناصر خسرو، الذي كرَّس الطابع العنصري، وهو ما دفعنا إلى إعادة النبش بين جنبات هذا المؤلَّف من أجل استكمال مربعات الصورة والمساعدة على فهم أكبر للبنية السلوكية الفارسية. ففي سنة (1047م) خرج الشاعر والفيلسوف الفارسي ناصر خسرو من مدينة مرو في رحلة من أقدم وأهم الرحلات في العصور الوسطى، استغرقت سبع سنوات جال فيها ربوع إيران وانتقل منها إلى أذربيجان وأرمينية والشام وفلسطين ومصر والجزيرة العربية.

وفي خلال رحلته إلى الجزيرة العربية لم يستطع كبح نفسه في كتابةٍ عن العرب ووصف للعرب مبالغ فيه، هذا بخلاف بعض المعلومات غير الصحيحة التي دَوَّنها خلال رحلته، ومنها على سبيل المثال حديثه عن قبر أبي هريرة رضي الله عنه، الذي يدعي أنه موجود في طبريا على خلاف ما هو واقع، والذي يدس فيه نفسًا عرقيًا عن أبي هريرة، فيقول: “ويقع قبر أبي هريرة خارج المدينة ناحية القبلة. ولكن لا يستطيع أحد زيارته؛ لأن السكان هناك شيعة، فإذا ذهب أحد للزيارة تجمع عليه الأطفال وتحرشوا به وحملوا عليه وقذفوه بالحجارة”. وبخلاف أن القبر في المدينة المنورة، إلا أن القصد العميق لقول خسرو يكمن في تكريس البعد المذهبي على الطريقة الفارسية، واختيار أبي هريرة على وجه التحديد يحمل كثيرًا من المقاصد ، إذ إنه واحدٌ أكثر رواة الحديث النبوي رضي الله عنه.

في المجمل كتابة خسرو كانت تنفح بالنسق العرقي مترجِمةً النظرة الفارسية تجاه العرب، فعلى الرغم من اعترافه بكرم العرب وتعاملهم معه معاملة تفضيلية؛ ومن ذلك قول: “وأمير جدة تابع لأمير مكة، الذي هو أمير المدينة أيضًا. وقد ذهبت إلى أمير جدة فأكرم وفادتي وأعفاني مما كان يجب علي من المكس ولم يطلبه…وقد كتب إلى مكة يقول عني: هذا رجل عالم فلا يجوز أن يؤخذ شيء منه”، إلا أنه بدلاً من أن يشكر المضيف على ضيافته وحمايته انتقص من عرب حصن بني نصير بقوله: “لم يذوقوا شيئًا غير لبن الإبل طول حياتهم، إذ ليس في هذه الصحراء غير علف فاسد تأكله الجمال، وكانوا يظنون أن العالم هكذا”. وفي صياغته انتقاصٌ واضح من شأن العرب، وتلميح أقرب للتصريح يحاكي النظرة الفارسية والصورة النمطية لديهم عن العرب.

ويصف خسرو عرب الأفلاج، فيقول: “وكان العمران قاصرًا على نصف فرسخ في ميل عرضًا. وفي هذه المسافة أربع عشرة قلعة، قلعة للصوص والمفسدين والجُهَّال…ولا يأكلون إلا قليلاً من صلاة المغرب حتى صلاة المغرب التالية…والسكان هناك فقراء جدًا وبؤساء، ومع فقرهم فإنهم كل يوم في حرب وعداء وسفك دماء”. ومن الطَبَعِيِّ أن المبالغة التي جاءت في كتابة خسرو لم تكن إلا محاكاة للصورة النمطية المترسخة لدى الفرس أكثر من كونها واقعًا يصفه.

ويمكن القول بأن الصورة التي رسمها ناصر خسرو حول العرب يغلب عليها التحامل والتطاول، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن سبب هذا التحامل والتطاول. كما أن خسرو يلخص تحامله على العرب بقوله: “وعندي أن كل البدو يشبهون أهل الحسا، فلا دين لهم، ومنهم أُناس لم يمس الماء أيديهم مدة سنة…وهم لم يروا الحمامات أو الماء الجاري في حياتهم”.

وإذا ما حاولنا أن نتتبع وصف خسرو للعرب بالمجمل؛ سنجد أنه لا يخرج عن هذا الإطار العنصري المتحامل على العرق العربي، إذ لا يُفَوِّتُ فرصةً من دون أن يلمز فيها، ولا حادثةً إلا ويُحَجِّمُها ويبالغ بها، خصوصًا إن كانت تفضي إلى إظهار العرب جُهَّال متخلفين، ويتعامل مع حياة البداوة العربية على أنها معيبة، من دون أن يعي بأن العرب أنفسهم يفاخرون ببداوتهم، التي تُعدُّ أساسًا لحياة الكثيرين منهم، وإن كان لا يرى منها سوى العيش في الصحاري وشرب حليب الإبل؛ فإن ما يصعب عليه إدراكه أن هؤلاء العرب ببدوهم وحَضَرِهِم يمتلكون قيمًا وعزةً يصعب على القاموس الفارسي أن يترجمها في واقعه وحياته وتعاملاته.

العرب ببدوهم وحَضَرِهِم يمتلكون قيمًا وعزةً يصعب على القاموس الفارسي أن يترجمها في واقعه وحياته وتعاملاته.

هذه الصورة يحاول الفرس ترسيخها في الخيال الجماعي للإيرانيين، ومن ثَمَّ مواصلة حقنهم بالكراهية والاستعلاء، الذي لا يمكن تفسيره إلا في رغبة الفرس في خلق عدو افتراضي لقوميتهم، يمررون من خلاله أجنداتهم الداخلية، ويحاولون إثبات مظاهر حضارية غير واقعية للفارسية.

  1. رئيف خوري، مع العرب في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).

 

  1. عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).

 

  1. محمد السلمي، الآخر العربي في الفكر الإيراني الحديث (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 2018).

 

  1. ناصر خسرو، سفر نامة، ترجمة: يحيى الخشاب، ط2 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة، 1993).

 

  1. هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).