من فصول التزييف التاريخي العثماني

حصر جريمة إسقاط الدولة السعودية الأولى في والي مصر وحده

شكَّل احتلال العثمانيين للحرمين الشريفين أداةً ضرورية لاكتساب الشرعية الدينية لمشروعهم التوسعي، خاصة وأن سلالة آل عثمان لم تكن لها مرجعية دينية أو شوكة قَبَلية يمكن الارتكان عليها من أجل تأسيس مشروع سياسي بذلك الحجم وذلك الامتداد.

ولقد تعامل العثمانيون مع الحجاز بمنطق براغماتي خبيث، يُخفِي حقدهم الدفين لكل ما هو عربي، لذلك شكَّل الالتزام الديني لأبناء جزيرة العرب تحديًا حقيقيًّا للمشروع العثماني، وهو الالتزام الذي لم يكن ضمن أولوياته، مما انعكس على سلوك سلاطين آل عثمان الذين لم يَزُر أيٌّ منهم المشاعر المقدسة.

في هذا السياق تأسَّسَت الدولة السعودية الأولى على أسُس ميَّزَها الالتزام الديني والطموح بتوحيد تراب الوطن، لجمع شتات القبائل العربية التي تفرَّقَت بسبب النعرات المحلية، وهي النعرات التي زاد من تأجيجها الاحتلال العثماني، الذي تَبنَّى تكتيك “فَرِّق تَسُد”، من أجل مواصلة بسط يده على المناطق العربية.

رأت الدولة العثمانية في عودة الجزيرة العربية إلى الحاضنة العربية ليس فقط خطرًا على أطراف الدولة، وإنما تهديدًا لمرتكزها الشرعي، ممثلًا في الحرمين الشريفين، وأمام هذا الوضع “لم يتوانَ السلطان عن تكليف محمد علي بعدما عجز ولاة الشام والعراق عن التصدي للتوسع…، فكان فرمان التثبيت بعد محاولة نَقْله 1806 يُكلِّفه بالحرب”.

إن الثابت أن محمد علي كان يرفض الخروج لمواجهة الدولة السعودية الأولى، وظل يؤخر ويماطل، والسلطان العثماني يدفع ويُذَكِّر بالفرمان وراء الفرمان، و”يطلب منه أن يرسل قواته إلى بلاد العرب… وكرر السلطان طلبه سنة 1808م، وأسند إليه ولاية الحجاز؛ لإطلاق يده في تلك المنطقة، وحَثِّه على تلك المهمة”. 

لقد حاول البعض تبرئة ساحة الدولة العثمانية من جرائم الإبادة التي تعرضت لها الدرعية وعسير، وأرادوا تحميل محمد علي (والي مصر) لوحده مسؤولية التجاوزات الفظيعة التي وقعت ضد السعوديين، وربما الغرض الركوب على الأحداث التاريخية، ومحاولة إخراجها من سياقها من أجل تبرئة ساحة العثمانيين، وهي المهمة التي اجتهد بعض المؤرخين المؤدلَجين في تأديتها خدمةً لأهداف المال والتنظيم.

وتقطع الشواهد بأن حملات محمد علي على السعوديين كانت بأوامر من الدولة العثمانية رأسًا، وتنفيذًا لمخططاتها في المنطقة، وهو ما يؤكده موقف الشريف غالب بن مساعد، الذي كان يرى أن حملات محمد علي “كما هو مُعلَن عنها هو طرد السعوديين، وإعادة سلطته ضمن السيادة العثمانية كما كان الحال في السابق”.

بينما كانت الحرب على الدولة السعودية الأولى استجابةً لحسابات دقيقة بين العثمانيين وواليهم على مصر، ورأى الطرفان في هذه الحرب بدايةً لإعادة الحسابات في المنطقة، وضبط العلاقة بين الدولة العثمانية ومحمد علي الذي أراد الحصول على الحكم الذاتي لمصر ولو تحت السيادة العثمانية.

وهنا اجتهدت الدولة العثمانية في ضرب قوتَين شديدتين ببعضهما البعض، بغرض التخلص منهما (السعوديين أو جيش محمد علي)، أو إضعافهما على أقل تقدير، فإذا انتصر محمد علي خلُصت الحجاز للاحتلال العثماني من جديد، مع ضعف حقيقي في الجيش القادم من مصر، وبالتالي إبقاء محمد علي على ولائه لدولتهم. أما محمد علي فقد رأى في هذا الاعتداء على الدولة السعودية الأولى بدايةً لتقوية نفوذه في الجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربي، وبالتالي بداية الاستقلال الفعلي عن الإمبراطورية العثمانية.

اجتهد العثمانيون بضرب محمد علي بالدولة السعودية الأولى.

وبين مطرقة الأتراك وسندان محمد علي، كان السعوديون هم الوحيدين أصحاب القضية العادلة، من خلال السعي لرد الأمور إلى نصابها، خاصةً أنهم بدأوا يستشعرون خطر انفراط عقد الدولة الإسلامية في معقلها، ومن قلب مهبط الوحي وبداية الرسالة المحمدية، التي نزلت بلسان عربي مبين.

ولعل ما يهمنا في هذا السرد هو التأكيد بأن الحرب العثمانية على السعوديين كانت – بالنسبة للأتراك – حربًا وجودية تدور رَحاها حول مفاهيم الشرعية، ومن يمتلك السيادة على الحرمين الشريفين، ولذلك فإن الدولة العثمانية التي اجتهدت في تهميش جزيرة العرب، اجتهدت بنفس القدر في إخضاعها، ولو تطلَّب الأمر محوَ عرب الجزيرة من خريطة الوجود الإنساني، وهو ما يَرقَى – في نظرنا – إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية.

إن استرداد السعوديين للحجاز شكَّل ضربة قاصمة للمشروع العثماني برُمَّته، وليس فقط في الجزيرة العربية، فقد “أحدث هذا الأمر هزة عنيفة في إسطنبول، لا سيما مع تَعطُّل قافلة الحج السوري، التي تُعَدُّ القافلة الرئيسة؛ إذ تبدأ من إسطنبول، وتعبر سوريا تحت إشراف وحماية والي دمشق العثماني”.

إجمالًا يمكن القول بأن الدولة العثمانية جعلت من القضاء على الدولة السعودية هدفًا إستراتيجيًّا، وحيث إن الحرب هي استعمال الأدوات والوسائل من أجل أهداف السياسة، فإن محمد علي كان هو الملقط الذي استعمله العثمانيون للوقوف في وجه قيام مشروع الدولة العربية السعودية.. ولو إلى حين.

  1. عبد الله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية (الرياض: د.ن، 1984م).

 

  1. علي عفيفي، “الجزيرة العربية والعراق في إستراتيجية محمد علي (بيروت: دار الرافدين، 2016م).

 

  1. سليم الغنام، سياسة محمد علي باشا التوسعية في الجزيرة العربية والسودان واليونان وسوريا 1811-1840م (الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2004م).

 

  1. في درسٍ للتاريخ لم يفهمه سلاطين العثمانيين.. السعوديون بنوا الوطن في قلوبهم قبل حدودهم السياسية. مقالة نُشرت على موقع حبر أبيض على الرابط الدولة السعودية الأولى (2)- العدد الخامس والثلاثون – حبر أبيض (whiteink.info).