بدافعٍ انتقامي ضد ثقافة العرب

السيطرة السياسية في زمن الدولة العباسية مكَّن الفرس من بعث فكرهم القديم بالباطنية

تسللت الثقافة الفارسية إلى مفاصل التفكير عند العرب المسلمين في محاولة لتجريفه والقضاء عليه ثم اختطاف الإسلام لصالح الفرس، ولقد نجح الفرس المتعصبون في أواسط عصر الدولة العباسية، حاملين ذلك فكرًا باطنيًّا، وشعوبية حاقدة ومظلومية غير منصفة ولا صادقة، هدفها القضاء على العرب وملكهم ومجدهم وارء ستائر عديدة.

لقد توارث بعضٌ من الفرس على مدى قرون أن الإسلام في شكله العربي هو عدوهم الأساس؛ لأنه مفتاح السيادة العربية التي كرهوها وانعزلوا عنها ونظروا إليها نظرة الحسد والحقد والألم الذي لم يستطيعوا أن يتعايشوا معه، وفهموا أنه لا سبيل لإسقاط الإرث الثقافي والقِيَمي للإسلام الذي تركه العرب الفاتحون في بلاد فارس بدون اختطاف الإسلام نفسه، وتحويله إلى أداة في يدهم، ولكن في شكل مُشوَّه مشبوه؛ سعيًا منهم لاستعادة ماضيهم وسلطانهم وإمبراطوريتهم الساسانية المفقودة، التي زعموا أن العرب المسلمين القادمين من صحراء الجزيرة العربية هم سبب تفككها واندثارها بعد معركة القادسية الشهيرة.

يشير الباحث محمد محزون في بحث له تحت عنوان: “الفرق الباطنية المنهاج والتاريخ”: “لقد كان المناخ مناسبًا لهذه الحركات – الباطنية-؛ لتنفث سمومها في عصر ضعف الخلافة العباسية؛ إذ سقطت هيبة المسلمين، واستشرت الأدواء الفكرية الخبيثة لهذه الحركات السرية الهدامة، وتعرَّض سلاطين المسلمين ووزراؤهم وقادتهم العسكريون وعلماؤهم للاغتيال وهم على أَسرَّتهم، إلى غير ذلك من الظواهر المفجعة التي امتلأت بها كتب التاريخ قاطبة، وكانت كبرى عوامل نجاح الحملات الصليبية والمغولية”.

وجدير بالذكر أن الفكر الباطني في الأصل هو حَلْقة في سلسلة المحاولات التي قامت بها سلالات الأرستقراطيات الفارسية التي فقدت امتيازاتها بانهيار حكم الأكاسرة، وهي تهدف إلى استعادة ذلك المجد الغابر. ولتحقيق هذا الهدف لجأتْ إلى أساليب وشعارات جديدة، تتفق مع المنعطف العقائدي والحضاري الذي تحوَّل إليه الشعب الفارسي بعد الفتوحات الإسلامية. وهذه الأساليب الجديدة تتجلى في الشعوبية والباطنية والمذهبية، وإحياء اللغة الفارسية.

استنهض الفرس جميع أفكارهم لمحاولة دمجها في الفكر الإسلامي عُنوةً وقهرًا.

وقد كانت بداية ظهور الفكر الباطني في القرن الثاني الهجري، ثم نشطت الحركات الباطنية في القرن الرابع الهجري وما تلاه؛ حيث ضمَّت بين صفوفها جماعات مختلفة، يجمعها هدف مشترك؛ هو إفساد العقيدة الإسلامية وتدمير المؤسسات العلمية والحكومية التي تمثل العقيدة؛ إذ ضمَّت فلاسفة ومفكرين كإخوان الصفا، وشعراء، وعلماء. كما أفرزت دولاً كالعُبَيدية والصَفَوِيَّة، وحركات كالقرامطة والحشاشين.

العلاقة الخفية بين المزدكية الفارسية والباطنية:

ليست هناك من طريقة لفهم الباطنية إلا أن نذهب عميقًا في الأديان الفارسية القديمة ونبحث عن القواسم المشتركة بينها وبين الباطنية، والتي تُظهر أن المزدكية مورد أصيل استقت منه الباطنية أفكارها وطوَّرتها بما يناسب المرحلة التي نشأت فيها، وألبستها رداء الدين الإسلامي. بينما المَزْدَكيّة دينٌ وثني فارسي منبثق عن المانوية، أسسه الزعيم الديني الفارسي مَزْدَك المتوفى نحو (528م)، الذي قادَ حَركةً اشتراكيّة مناهضة للزَّرادشتية السائدة في عهده، وجزء مهم من رؤيته للكون مستمد من أصول الفكر الباطني، فقد راح يناقش قضية الظلمة والنور إذ يرى أن امتزاجهما هو الذي تمخضت عنه نشأة الدنيا صدفة، وأسّس دينه على أفكار إباحة المشاركة في الأموال والنساء. وانتشرت أفكاره انتشارًا واسعًا في فارس في أواخر القرن السادس الميلادي، خاصة بعد أن اعتنقها ملك الفرس قُباذ الأول. لكن الكهان الزرادشتيين والنبلاء الفرس ما لبثوا أن ثاروا عليها، فما كان من قُباذ إلاّ أن ارتدّ عنها، وقتل مَزْدَك وأتباعه.

تسللت المزدكية مثل كثير من تفاصيل الثقافة الفارسية إلى العرب، وخصوصًا بعد ضعف الدولة العباسية، “فأُعيد إحياء المزدكية – الفارسية- تحت اسم “الْخُرْمَدِينِيَّةِ بالفارسية أو الخُرَّميَّة بالعربية”، من خلال عدة فرق متأسلمة منها فرقة “البابكية” أتْبَاع بابك الخرمي الذي ظهر فِي مدينة البذ بأذربيجان، وانتشرت فرقهم في منتصف القرن الرابع الهجري في خراسان والري وأصبهان وأذربيجان والكرج وماسبذان”.

أصلُ الباطِنيَّةِ

يقولُ الدكتور محمد أحمد الخطيب، في الأصلِ التاريخيِّ للباطنيَّةِ: “الواقِعُ أنَّ مؤرِّخي الفِرَق مختلفون في أصلِها ومَصدَرِها؛ فمنهم مَن يُرجِعُها إلى المجوسِ، ومنهم مَن يَنسُبُها إلى صابئةِ حَرَّان، إلَّا أنَّ هذا الاختلافَ يزولُ عندما نعرِفُ أنَّ الأصولَ التي يعتَمِدُ عليها الباطِنيَّةُ بكلِّ فِرَقِها وطوائفِها نابعةٌ من الفلسفةِ اليونانيَّةِ التي غزت بأفكارها الكثيرَ مِنَ الفِرَقِ. والفلسفةُ اليونانيَّةُ الأكثَرُ تأثيرًا هي فلسفةُ أفلوطين الإشراقيَّةُ الغنوصيَّةُ، وفيثاغورس بفلسفته العَدَديَّة، ويمكن القولُ بأنَّ منظومةَ عبد الله بن سَبَأ هي منظومةٌ غنوصيةٌ باطنيةٌ”. ولقد تسللت بعد ذلك الأفكار الفارسية في الديانة المزدكية إلى الفرق الباطنية حاملة ثقافة الفرس وأحلامهم وأمانيهم باستعادة إمبراطوريتهم.

  1. عبدالقاهر البغدادي، الفَرق بين الفِرق (القاهرة: مكتبة ابن سينا، 1988).

 

  1. عبدالوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).

 

  1. محمد الخطيب، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي (عمَّان: د.ن، 1986).

 

  1. محمد اليماني، كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة، وكيفية مذهبهم، وبيان اعتقادهم، تحقيق وتقديم: محمد الخُشْت (الرياض: د.ن، د.ت).