التوظيف السياسي لمأساة الأندلس

هناك العديد من المقولات النمطية التي تتردد كثيرًا في كتابات الإسلام السياسي، والكثير منها يرتبط بتوظيف تاريخ الدولة العثمانية، ولعل قصة الأندلس والدولة العثمانية من أهم الأمثلة على ذلك؛ إذ يتحدث البعض عن نجدة الدولة العثمانية لمسلمي الأندلس، ويستشهدوا على ذلك برسائل أهل الأندلس إلى السلاطين العثمانيين طلبًا للنجدة، لكن ينسى هؤلاء أن أهل الأندلس أرسلوا أيضًا رسائل استغاثة للعديد من سلاطين وملوك المسلمين في شتى الأرجاء، فلم يكن إرسال الرسائل قاصرًا على السلاطين العثمانيين فحسب. ووصل الأمر ببعضهم إلى القول بأن تحالف الدولة العثمانية مع فرنسا وما نتج عنه من اتفاقيات عُرِفَت بعد ذلك في تاريخنا بالامتيازات الأجنبية، كان الغرض منها تكوين تحالف ضد أسبانيا لاسترداد الأندلس، أو على أقل تقدير بقاء المسلمين في الأندلس وتحسين أوضاعهم المعيشية. 

ويسير البعض على نفس النهج الأسطوري، أو في الحقيقة توظيف التاريخ لدعاوى أيديولوجية قائلين بأن توسعات العثمانيين في شرق أوربا كانت جزءًا من خطة عثمانية لاقتحام أوربا، وفتح الفاتيكان كما فتحوا من قبل القسطنطينية، وكسر أوربا الكاثوليكية من أجل الوصول إلى أقصى غرب أوربا واسترداد الأندلس مرة أخرى.

وفي الحقيقة ترفض حقائق التاريخ كل هذه الدعاوى التي يجب النظر إليها في حقيقة الأمر على أنها مجموعة من الأساطير، أو أحلام يقظة تداوي جرح سقوط الأندلس، أو توظيف سياسي للتاريخ من جانب تيار الإسلام السياسي ونظرته إلى تاريخ الدولة العثمانية على أنه تاريخ آخر “خلافة إسلامية”، وأن ما جاء بعدها هو الاستعمار، والدولة القومية “العلمانية”.

وتُجمِع معظم الدراسات التاريخية الجادة التي تناولت السياسة الخارجية للدولة العثمانية أنها كانت سياسة براجماتية بحتة، والحق أن هذا لا يعيب الدولة العثمانية، فالسياسة فن المُمكِن، ولكن الأزمة الحقيقية جاءت -كما رأينا- من النظر إلى السياسة الخارجية العثمانية على أنها “سياسة إسلامية مقدسة”.

وأي دراسة متأنية وموضوعية ستُثبِت أن الأندلس لم يكن في بؤرة اهتمام الدولة العثمانية، فحتى عام 1492م تاريخ سقوط غرناطة -آخر إمارات الأندلس- كان جُلّ اهتمام السياسة العثمانية منصبًّا على الشرق، سواء في مواجهة التتار وغزوات تيمورلنك، أو الغزوات في شرق أوربا، أو فتح القسطنطينية، ومن ثَمَّ لم يكن الأندلس بؤرةَ اهتمام الدولة العثمانية. يُضاف إلى ذلك ما تشير إليه الدراسات التاريخية من تواصل النشاط التجاري بين الدولة العثمانية وألدِّ أعدائها في أوربا، وعلى رأسهم البندقية، فالسياسة دائمًا براجماتية ورغم الحروب، كانت المصالح التجارية هي الأهم.

وفي وسط ذلك كانت مأساة الأندلس وأهلها، وقد خُلِّدَت في العديد من الأعمال الأدبية المُستقاة من التاريخ، ولعل من أهمها المجموعة الروائية الشهيرة “في ظلال الرمان” للكاتب البريطاني ذي الأصل الباكستاني “طارق عليّ”؛ إذ يروي قصة عواقب سقوط غرناطة، وجهاد أهلها من أجل البقاء على قيد الحياة، وشكل الحياة بالنسبة لأولئك الناس من ذوي القدر المشؤوم المحاصرين من كل جانب في عالم مسيحي أسباني لا يعرف التسامح، فيرصد عمليات إجبار هؤلاء على التحول إلى المسيحية، أو التهجير القسري.

فرفقًا بتاريخ الأندلس، ويا ليتنا نتوقف عن عملية توظيف مأساة الأندلس في أدبيات الإسلام السياسي.