العلاقة بين الحرفيين والتجار بالجيش العثماني استعباد من نوع آخر

إن البحث في العلاقة بين طبقات المجتمع في تاريخ الدولة العثمانية -لا سيما المهنية- تظهر من خلال اكتشاف العلاقة بين الحرفيين والجيش والعلاقة قديمة، واذا ما حددنا عهدا معينًا من عهودها نجده متمثلاً منذ عهد السلطان سليم الأول، وها هو المؤرخ ابن إياس في مؤَرَّخِه بدائع الزهور في وقائع الدهور يقول: “نفذ سليم الأول ما وعد به عند غزوه للقاهرة، إن العثمانية طفشت في جميع الحارات والأماكن، وحطوا غيظهم في العبيد والغلمان والعوام وغيرهم.. ولعبوا فيهم بالسيف، وراح الصالح بالطالح، وربما عوقب من لا ذنب له، فصارت جثثهم مرمية في الطرقات من باب زويلة إلى الرميلة، ومن الرميلة إلى الصليبية إلى قناطر السباع إلى الناصرية إلى مصر العتيقة.. فكان مقدار من قتل في هذه الواقعة من بولاق إلى الجزيرة الوسطى إلى الصليبية فوق العشرة آلاف إنسان في مدة هذه الأربعة أيام، ولولا لطف الله تعالى لفنى أهل مصر قاطبة بالسيف.. كما أن جنوده كانوا يطيحون في رأس المصريين بالسيف، متى رأوا أحد المماليك ضربوا عنقه حتى داخل الجوامع والمدارس والزوايا”. 

ويروي المؤرخ المصري رواية أخرى للاستعباد الذى مارسه العثمانيون ضد المصريين قائلا: “في يوم اضطربت أحوال القاهرة، وصارت أرباب الأدراك تقف على أبواب المدينة ويمسكون الناس من رئيس ووضيع ويضعونهم في الحبال حتى من يلوح لهم من القضاة والشهود، وما يعلم ما يصنع بهم، فلما طلعوا بهم إلى القلعة أسفرت تلك الوقعة على أنهم جمعوا الناس حتى يسحبوا المكاحل النحاس الكبار التي كانت بالقلعة، وينزلوا بها إلى شاطئ البحر.. وقاسى الناس في سحبها غاية المشقة وحصل لهم بهدلة من الضرب والسك وخطف العمائم.. وصاروا يربطون الرجال بالحبال في رقابهم ويسوقونهم بالضرب الشديد على ظهورهم”.

إن الهوة أو الخط الذي يفصل بين العسكر والموظفين والرعية، كانت في ازدياد وعمق لا لشيء إلا لأن العرق العربي لابد أن يتعامل معه باستبداد واستعباد.

لقد كانت التغييرات التي طرأت على البلدان العربية بعد سيطرة العثمانيين مواتية لمصالح التجار الأوربيين، خاصة اليهود منهم، وجاء ذلك على حساب التجار العرب، وكل من يتحدث التركية، وغير ذلك من الطبقات الكادحة وكان هناك تمييز في أهمية الحرف ونوعيتها، ولكل حرفة طائفة، كانت تُعرف في اللغة التركية باسم سينيف Sinif ، وفي نهاية القرن 18م، كانت طبقة البروليتاريا سمة يوصف بها كل من يشتغل بمهن بسيطة كالسائقين والباعة المتجولين والحمَّالين والكنَّاسين، ولقد عانت هذه الطائفة من أصحاب تلك المهن معاناة التحقير والامتهان .

انعكس توتر واضح بين العرب والترك في التمييز والعنصرية التي أعطت كل من له مصالح مكانة لا يستحقها، وذلك يأتي بعد أن يكون التاجر مصدر دخل للسلطان يستغله، ومن ذلك ظهرت فئة استعبدت مصادر الدخل عن طريق تعيين موظفين مأجورين يخرجون بنظام الالتزام، وهو خروج مصادر الدخل بالقوة لضباط الجيش المتسلطين والأثرياء، والكثير من الالتزامات ثم تقسيمها على وكلاء يديرونها من أجل الملتزم الأصلي. فمثلاً كان اليهود يعملون في جمع دخول الجمك، وهذه موكلة لباشا مصر أو الانكشارية، ونتج عن ذلك فساد إداري أرهق البلاد والعباد .

لقد انتشر أمر غريب يثير الدهشة استعباد من نوع آخر، وهو دخول أغلب الجنود التابعين للدولة العثمانية في المِهن، وهي ظاهرة لها جذورها التاريخية منذ دخولهم البلدان العربية، والذي يُطلق عليه الكثير بأنه فتح. لقد كانت الخدمة العسكرية تمنعهم من الزواج ومن الاشتغال بالتجارة وغيرها لزيادة دخلهم، وذلك الاستعباد البشري جعلهم يخرجون عن الأمور الطبيعية إلى غيرها، ولذلك تطلعوا إلى أن يعملوا لمصالحهم بطرق غير قانونية وغير منتظمة، ومن أعمالهم مثلاً افتتاح الجنود الأتراك محلات لبيع البيرة وغيرها، وازداد تدفق الجنود على امتهان مهن تدر المال، وهناك أمثلة يصعب الكتابة عنها، فكيف كانت الحال بسببها في ذلك الحين -الله المستعان -، ويذكر عدد من المؤرخين المعاصرين بأن العساكر تحت وطأة الاستعباد كونوا مجموعات وشاعت بينهم التحالفات وبين التجار والقادة العسكريين وأصحاب الحوانيت، وتشابكت مصالحهم ونتجت عنها حوادث امتلأت بها بطون كتب التاريخ والأدب موثقة لتلك الأحداث، ولكن الأهم أن السياسة العثمانية أثرت في صَوَلان الاستبداد وجَوَلانه بين رعاياها بطرق مباشرة و غير مباشرة واستجدَّ كيانٌ يشعر بالقهر والاستعباد منها دون أي مبرر لذلك إلا لعنصرهم وانتمائهم العربي، وحاول الكثير أن يعبروا بردود أفعال ونضال يُفصح عن مقتهم لسوء الحكم العثماني .