بدءًا من القرن الهجري الأول

طريق الفرس لضرب الهوية العربية بـ "الشعوبية"

بعد أن فشل الفرس عسكريًّا في مواجهة العرب المسلمين في مراحل تاريخية سابقة؛ اتخذوا منهجًا آخر من خلال أيديولوجيا جديدة عمَّقتها الحركة الشعوبية التي تمثل واحدة من فصائل مخطط المؤامرة على العرب المسلمين، وقد عمدت الشعوبية إلى مهاجمة العرب حَمَلَة لواء الإسلام وأصحاب الدولة الإسلامية في تاريخهم وأسلوب حياتهم، ومهاجمة التاريخ الإسلامي، واللغة العربية، والطعن في أصول القيم الإسلامية وجذورها، كذلك عمدت الشعوبية إلى إذاعة المجون، والانحراف، واعتبرت ذلك نوعًا من التحرر.

الشعوبية حركة قديمة قِدم العلاقة بين العرب وجيرانهم من العجم المجاورين على تخومهم في فارس والأناضول والشعوب التي استوطنت بلاد الشام وشمال أفريقيا، فالعلاقة بين الفرس وعرب الجزيرة قبل ظهور الإسلام تؤكد ذلك، ووصف كسرى للعرب بانتقاص أمام النعمان بن المنذر ملك الغساسنة يشير إلى ذلك بوضوح.

الشعوبية ليست -كما يزعم الشعوبيون- ردة فعل لاحقة ظهرت في القرن الأول الهجري نتيجة تصرفات عربية إثر قيام الدولة الأموية في الشام والعراق وفارس ثم الأندلس غربًا والصين شرقًا، لقد كانت في حقيقتها حقدًا على العرب الذين خرجت من عندهم رسالة الإسلام، وحملوها إلى العالم، بل إن ترسيخها توسع في الوجدان الأعجمي وفي أدبيات القرن الثاني الهجري، بعدما استولى الفرس على مفاصل الدولة إثر انقلاب الخليفة المأمون على أخيه الأمين بمساعدة الفرس ودعمهم.

جاء في بحث منشور بمجلة جامعة الأزهر، سلسلة العلوم الإنسانية للباحث عثمان محمد العبادلة، أنه رُصِدَ ظهور الشعوبية مبكرًا في العصر الأموي، وكان الشعر العربي خزان حفظ لتلك النزعة غير السوية التي لا تزال مستمرة حتى اليوم بسبب توريث العداء ضد العرب، فقد ظهرت الشعوبية في الشعر مبكرًا، فافتتحها أحد شعراء العصر الأموي؛ إسماعيل بن يسار النسائي الذي افتخر بقومه وأمجادهم، وعيَّر العرب في جاهليتهم بعاداتهم وطريقة عيشهم. لكن الظروف السياسية والاجتماعية لم تكن لتسمح لهذه النزعة بالاتساع والشمول، والتحول إلى تيار له أنصاره ومؤيدوه. وكان على هؤلاء تحيّن الفرصة المناسبة لتغيير الوضع السياسي.

ويحدد العبادلة “يبدو أن اسم الشعوبية لم يظهر إلا في العصر العباسي الأول؛ لأن أصحاب هذه النزعة التي تحاول مساواة العرب أو تحقيرهم لم تتخذ شكلًا قويًّا واضحًا يصح أن يطلق على معتنقيه اسم إلا في هذا العصر. أما قبل ذلك فقد كانت نزعة خفية لا تستطيع الظهور، وإذا ظهرت أُخمدت. والحاجة إلى اسم إنما تكون بعد أن يتخذ المبدأ شكل عقيدة عامة أو حزب. وكذلك فإن هذا الاسم لم يطلق على هذه النزعة في العصر الأموي. وأقدم ما وصل إلينا من الكتب التي استعملت لفظ الشعوبية كتاب البيان والتبيين للجاحظ”. بل تناولها الجاحظ في العديد من كتبه.

ومما قاله الشاعر الفارسي النسائي فاضحًا ما يحمله تياره الشعوبي من كراهية وحقد على العِرق العربي:

وقد واصل النسائي افتخاره بقومه الفرس على العرب في قصيدة أخرى قالها في حضرة الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، الذي لم يؤذه، وهو ما يؤكد كذب ادعاء الشعوبيين عن كراهية العرب لهم، وكل ما فعله الخليفة إخراجه من مجلسه، حيث قال فيها:

كراهية العرب والإسلام:

وصل الأمر بالشعوبيين إلى كراهية دين الإسلام الذي حمله العرب للعالم، بعدما عبد الفرس النار والشيطان والنجوم، بل عملوا على اختطافه وإدخال المعتقدات والخرافات البائدة فيه بعدما يئسوا من إسقاطه، ويصور الأديب العربي الجاحظ حركة الشعوبية وأهدافها بقوله: “فإنَّ عامَّةَ مَن ارتاب بالإسلام إنما كان أوَّل ذلك رأي الشُّعوبية والتمادي فيه، وطول الجدال المؤدِّي إلى القتال، فإذا أبغض شيئاً أبغضَ أهلَه، وإنْ أبغَضَ تلك اللغةَ أبغض تلكَ الجزيرةَ، وإذا أبغض تلك الجزيرةَ أحبَّ مَن أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالاتُ تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام، إذ كانت العرب هي التي جاءت به، وكانوا السَّلف والقدوة“..

أثر الشعوبية في المجتمعات العربية:

لا شك أن صدمةً حضاريةً كبرى وقعت على العجم بعد قيام الإمبراطورية العربية، فما كان يظن الفرس -على وجه الخصوص- أن يقوم للعرب قائمة وهم يعيشون في تلك الصحاري القاحلة بلا موارد ولا إمكانات ولا إرث يستندون عليه، فالاحتقار والنظرة الدونية سبغت العلاقة ودفعت الفرس للإيمان بتفوقهم العرقي على العرب، ووصفوهم في كثير من أشعارهم وكتبهم باللصوص وآكلي السحالي، قال الجاحظ: ” والشّعوبيّة تهجو العرب بأكل العلهز، والفثّ، والدّعاع، والهبيد، والمغافير، وأشباه ذلك” وهي أنواع من الحبوب كانت تُطحن وتُخبز.

لقد صعقهم الإسلام بتحضره وقيمه وأخلاقه ومكارمه، ودفع إمبراطورياتهم القديمة إلى الانكسار أمام هيبته وقيمه العظيمة، لكن ذلك لم يدفعهم إلى الاستسلام، فكان مدخلهم للسطو على مكانة الإسلام ادعاء المظلومية من العنصرية الكاذبة، وهذا ما يتكرر في كل عصر، فأدى بهم إلى إنشاء حركة مضادة تحت وصف الشعوبية، ثم الانقضاض على الدولة العربية واختراقها صعودًا في السلم الإداري حتى الهيمنة على الخليفة رأس الدولة، وهو ما حصل تمامًا في العصر العباسي.

جذور الشعوبية:

لا يكتفي كثير من الباحثين بإعادة الشعوبية إلى العصر العباسي أو خروج إرهاصاتها في العصر الأموي، بل يعيدون جذورها إلى حادثة اغتيال أبي لؤلؤة المجوسي للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهذا الفارسي لم يقبل أن يسقط إيوان كسرى وتهزم أمته أمام عرب الجزيرة العربية، لقد كان هدفه ليس الانتقام فحسب، بل تدمير الدولة العربية المسلمة في عُقر دارها وباغتيال زعيمها.

يؤكد الباحث تَميم اليونُس في مؤلف منشور له على أن حادثة اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب كانت أولى الأعمال العدائية للحركة الشعوبية انتقامًا للدولة السامانية التي قُهرت في عهده، ويلفت في بحثه إلى تزاوج شعوبية اليهود مع شعوبية الفرس في صدر الإسلام، التي كان من روادها اليهودي اليمني عبد الله بن سبأ، وهو ما أثمر لاحقًا عن تحالفات مع القوى الأجنبية المعادية للإسلام والمسلمين كتحالف الطوسي وابن العلقمي مع هولاكو والمغول.

الشعوبيون الفرس كانوا يجاهرون أمام الخلفاء العرب بعنصريتهم.

تأييد القوى النافذة في الدولة العربية:

خطورة الشعوبية تكمن في تحولها من حركة ثقافية مضادة إلى ما يشبه “الحزب السري” الذي عمل داخل الدولة العربية العباسية لهدمها، فرؤساء الوزراء الفرس، وكبار الموظفين حتى الـأدباء والشعراء ذوو العرق الأعجمي انخرطوا في تلك الحركة وأصبح همهم الوحيد الانتقام من العرب والحط من شأنهم، وإسقاط مكانتهم التاريخية وهدم دولتهم، وهو ما يراه رضا جامع في كتابه ظاهرة الشعوبية في العصر العباسي، قائلاً: “إن الشعوبية حركة ثقافية حضارية مناهضة للعرب، أو هي ما يشبه المنظمات التي كان يشرف عليها ويخطط لها ويتعهدها ويساعدها رؤساء من الوزراء والأدباء والكتاب والشعراء من الموالي الفرس”، ويربط هذا التعريف الشعوبية بالفرس؛ لأنهم أكثر الموالي حقدًا على العرب، والشعوبيون هم أولئك الذين كانوا ينتمون إلى تلك الشعوب التي اعتنقت الإسلام وينكرون على العرب أي فضل يتميزون به، وأساسهم العصبية التي لا تدخل في دين إلا أفسدته ولا في حياة إلا أهلكتها.

  1. أنور الصادق، آثار حركة الشعوبية والزندقة على الحياة الفكرية في العصر العباسي الأول 132-266هـ، رسالة ماجستير، جامعة الفاتح، ليبيا (2006).
  2. رضا رافع، “ظاهرة الشعوبية في العصر العباسي”، مجلة المدونة، مركز الدراسات الأدبية والنقدية، جامعة المديَّة، الجزائر (2015).
  3. عبدالعزيز الدوري، الجذور التاريخية للشعوبية، ط3 (بيروت: دار الطليعة، 1981).
  4. عثمان العبادلة، “الشعوبية في الشعر العربي أهدافها ونشأتها”، مجلة جامعة الأزهر، العلوم الإنسانية، مجلد 3، ع.1 (2000).
  5. نورة الظويهر، “الأبعاد التاريخية لعداء الفرس للعرب من ظهور الإسلام حتى نهاية العصر العباسي الثاني 334هـ”، مجلة جميعة التاريخ والآثار الخليجية، ع. 14 (2019).
  6. الجاحظ، “الحيوان”، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1424ه.