الصوفية والباطنية:

تنظيمات موازية في خدمة الأجندات الاستعمارية للعثمانيين

اقترن وجود الدولة العثمانية بمحاولة البحث عن نوع من الهالة الدينية وإيجاد مبررات “شرعية” لاختياراتها السياسية، كما لجأت إلى المشترك العقدي لاستغلاله في أدوات الحشد والتعبئة خدمة لأهداف السياسة ومشاريع التوسع. هذا التوجه دفع العثمانيين إلى الاعتماد على المعطى الديني كأداة لشرعنة حكمهم وكذا، وتوجيه الجيوش لاحتلال أراضي خارج الدولة تحت مبررات الجهاد والحرب المقدسة، وهو ما كان يفرض وجود مؤسسات دينية موازية توفر الغطاء الشرعي لاختياراتهم السياسية.
ورغم أن الدولة العثمانية كانت، ظاهريا، حنفية المذهب من خلال تبني الدولة للمذهب الحنفي في أصول التشريع وقواعد الإفتاء إلا أنها كانت تُركز على التدين الشعبي لضمان الولاء داخل الدولة وهو ما جعلها تعتمد على الزوايا والطرق الصوفية التي كان من السهل توجيهها بالنظر إلى طبيعة البنية السلوكية لهذه الطرق التي تميل إلى التحالف مع الحكام ومهادنتهم ودعم اختياراتهم بغض النظر عن مدى مطابقتها للكتاب والسنة كما هو دأب التنظيمات والجماعات التي تنتمي إلى دائرة أهل السنة والجماعة.
لقد لجأ العثمانيون إلى ما يمكن أن نطلق عليه ب “استراتيجية الدروشة الاستعمارية” لبسط نفوذهم على بلاد المشرق والمغرب تحت مبررات الخلافة الإسلامية. هذا المعطى ساهم في تبني الدولة العثمانية للطرق الصوفية كونها مرتكزًا للحكم في الداخل وعلى التأويلات الباطنية لشرعنة الأجندات التوسعية لآل عثمان في الخارج.
وعلى المستوى الداخلي، أثرت الصوفية بشكل كبير في السلوك الجماعي للأتراك من خلال إقامة عدد كبير من المساجد التي تحتوي على القبور والأضرحة وأيضا شيوع رقصة “التنورة” المستلهمة من النظرة المولوية للكون، كما أثرت الطرق الصوفية في العمران من خلال ظهور نوع خاص من الأبنية أُطلق عليها “التكايا” التي تطور دورها من مقرات لشيوخ الصوفية إلى لعب دور اجتماعي مهم تجلى في استقبال الفقراء والمحتاجين وإطعامهم وإيوائهم وتقديم المساعدة لهم.
ورغم أن الصوفية عُرف عنها الابتعاد عن السياسة والانزواء إلى الاعتزال والعبادة إلا أن الطرق الصوفية على عهد العثمانيين لعبت دورًا كبيرًا في بلورة السياسة العثمانية، بل اعتمد عليها السلاطين العثمانيون لمباركة قراراتهم السياسية وأجنداتهم الاستعمارية، فلم يكن الحكام الأتراك ليُقدموا على أية عملية عسكرية دون طلب “المدد” و”البركة” من شيوخ الزوايا الصوفية.
وحيث لا يتسع المجال للتطرق إلى مختلف الطرق الصوفية والباطنية التي كانت تنتمي إلى منظومة بنية الحكم العثماني، فإننا سنكتفي بتناول الطريقة الصوفية البكتاشية التي تعتبر خليطًا من الصوفية والباطنية حيث نجحت، من خلال تحالفها مع التنظيمات الباطنية، في التحكم في أهم مفاصل الدولة العثمانية وعلى رأسها الجيش.

البكتاشية الباطنية:

طريقة صوفية تحت مظلة الحكم العثماني

لعل ما يميز الطرق الصوفية التي انتشرت في تركيا وعلى رأسها الطريقة البكتاشية هو تبنيها للمعتقدات الباطنية والغلو في آل البيت واستحلال دماء من خالفهم وهو المعتقد الذي كان يبحث عنه العثمانيون لإطلاق يدهم وإعمال السيف في حق باقي المسلمين المخالفين وإخضاعهم لسلطانهم. وتقول الدكتورة بديعة محمد عبد العال في كتابها “الفكر الباطني في الأناضول” ما نصه “انتشرت العقائد الباطنية في الأناضول انتشارًا ملحوظًا. وصبغت الفرق الصوفية بصبغتها الباطنية”(1).
ففي هذا السياق، ظهرت الطريقة الصوفية الباطنية البكتاشية، نسبة إلى زعيمها حاجي بكتاش ولي (674- 738ه)، في القرن السابع الهجري لتعرف انتشارًا كبيرًا انتهى بها إلى احتضان باقي الطرق الصوفية والانفراد بتمثيل المكون الصوفي داخل الدولة العثمانية، حيث ضمت في بنيتها العديد من الطرق الباطنية مثل القلندرية، والحيدرية، والحروفية، والأبدالية، وباقي الفرق الباطنية التي اتخذت لها أسماء عديدة على مر التاريخ(2).
وتشير العديد من الكتابات إلى دور الطريقة النقشبندية في إبرام أول تحالف بين السلطان أورخان، ثاني سلاطين آل عثمان، والطريقة البكتاشية حيث أصبح البكتاش مُكونًا أساسيًّا في الجيش الإنكشاري العثماني الذي قام بأبشع الجرائم في حق شعوب الدول التي نجح العثمانيون في إخضاعها لسلطانهم. وتجمع هذه الكتابات التي تناولت جيوش الإنكشارية إلى أن الانتماء إلى هذه المؤسسة العسكرية كان رهينًا بالولاء للحاج بكتاش مؤسس الطريقة.

الحروفية البكتاشية:

حلفاء العثمانيين في الاستعمار والإرهاب

“الحروفية” هي طريقة شيعية كان يطلق عليها “الجهاردية” أسسها الإيراني الشيعي “فضل الله ابن عبدالرحمن الحسيني الإستراباذي” أحد تلامذة مدرسة السهروردي، وقد استطاعت الانتشار في مناطق متفرقة من الدولة العثمانية حتى صار سلاطين آل عثمان يعتمدون عليها في حروبهم الخارجية بداية من معارك احتلال “القسطنطينية”.
وتتميز “الحروفية” بالتأويل الباطني للنصوص القرآنية وذلك بالاعتماد على خلط الحروف والأرقام أو ما يطلق عليه بعلوم الأوفاق والطلاسم والتنجيم، كما آمنت بأن الرقم أربعة (4) في القرآن الكريم يفسر -في اعتقادهم- عناصر الوجود والكون وهي “الهواء والأرض والنار والماء”.
وفي زمن السلطان مراد الثاني قام التنظيم الباطني الحروفي، عبر زعيمهم “عماد الدين نسيمي”، بالحشد لاحتلال القسطنطينية وهو ما وجد هوى لدى السلطان العثماني خاصة أن خلفه محمد الفاتح كان أحد تلامذة زعيم الحروفية ليعمل هذا الأخير على تقوية نفوذهم داخل الدولة ويضمهم إلى تنظيم “البكتاشية” باعتبارها الطريقة الصوفية الرسمية للدولة العثمانية والمذهب الديني للانكشارية وهو ما يمثل -في تقديرنا- أول تحالف معلن بين الصوفية والباطنية تحت لواء الدولة العثمانية.
لقد وجد محمد الفاتح في الحروفية البكتاشية، التي اتخذت شكل طريقة صوفية لتفادي انتقادات علماء الدين السنة، مرتكزًا للترويج لأطروحة المهدي الذي سيفتح القسطنطينية سيما أن الجيوش العثمانية لم تكن متحمسة لهذه المغامرة العسكرية بعد العديد من الانتكاسات أمام الدولة البيزنطية (3).
وإجمالاً، يمكن القول بأن التنظيمات الصوفية/ الباطنية شكلت أداة بطش في أيدي سلاطين آل عثمان الذين اعتمدوا على تأويلاتهم الشاذة في حشد ولاء العامة وأيضًا لاستباحة مجموعة من المناطق التي قامت الدولة العثمانية باحتلالها. وتروي بعض الكتابات أن الحروفية البكتاشية روجوا لأسطورة أقنعوا بها سليم الأول لاحتلال الشام ومصر والتي تقول “ستدخل السين في الشين بعد نصر أول على شين ليظهر قبر محيى الدين”. ومختصر هذه الأسطورة أن “السين” وهو سليم الأول سينتصر على “الشين” وهو الشاه إسماعيل الصفوي قبل دخول “الشين” وهي الشام. هذه الأسطورة كانت مبررًا للسلطان سليم ليعلن الحرب على أعدائه المماليك ويقوم بإخضاع الشام ومصر للاستعمار العثماني، وتبدأ معه صفحة جديدة من صفحات التاريخ الأسود للدولة العثمانية.
المراجع:

1- بديعة محمد عبد العال، “الفكر الباطني في الأناضول”، دار الثقافية للنشر، 2009، ص 106 

2- المرجع السابق، ص 5.

3-عمرو عبدالرحمان، مقال بعنوان “الجهاردية العثمانية سر ممالك النار ؛ الحقيقة والأسرار”. نشرها موقع الحوار على الرابط
الرابط