السلطان عبد الحميد الثاني...

وموسم الهجرة إلى الجنوب

تُشكل شخصية السلطان عبد الحميد الثاني بنية سلوكية مضطربة و”شخصية قلقة” في تاريخ الشخصيات التي تناولتها كتب التاريخ والسير. فنجد أن هناك من رفعه إلى مستوى السلطان العظيم الذي ظلمه الأتباع وأساء إليه المؤرخون، ومنهم من يرى فيه نموذجًا للحكم المطلق الذي ناور ليحكم السلطنة العثمانية بيد من حديد، ومنهم من وصف أجندات العثمانيين الجدد على أنها استمرار موضوعي لاستراتيجية هذا السلطان العثماني. 

ورغم قلة الكتابات “الموضوعية” التي تناولت هذه الشخصية والشكوك التي حامت حول مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني، والتي لا نكاد نقف على نسختين متطابقتين منها، بالإضافة إلى مدة تدوينها التي يُقال إنها لم تتعدى الشهر الواحد (مارس- أبريل 1917م)، فإن القائمين على موقع “حبر أبيض” حاولوا الانفتاح على جل الكتابات التي تناولت هذه الشخصية في محاولة لتركيب مربعات الصورة كاملة في أفق فهم العقيدة العرقية التركية، وكشف حقيقة أهدافها في ظل التحركات التركية في المنطقة العربية، التي تحاول إعادة إحياء التاريخ الاستعماري للسلطنة رغم تغيير الأدوات والوسائل التي يجري تحريكها لتحقيق الهدف السياسي الأسمى للساسة الأتراك.

في هذا السياق، قفز عبد الحميد الثاني، وهو السلطان الرابع والثلاثون للدولة العثمانية، إلى الحكم سنة (1876م) في أعقاب خلع عمه السلطان عبد العزيز وانتحاره أو “مقتله” ثم خلع السلطان مراد الخامس ثلاثة أشهر بعد توليه الحكم بدعوى الجنون وهو ما باركه صراحة السلطان عبد الحميد الثاني، بل ذهب إلى حد اتهامه بالانتماء إلى المحفل الماسوني، وقال فيه ما لم يقله مالك في الخمر، إذ يعنون إحدى فقرات مذكراته بعنوان: “جعلوا من مراد الماسوني بطلاً” ويقول تحت هذا العنوان: “كانوا يهدفون إلى تصوير السلطان مراد للشعب بصورة العالم الشاعر الوطني المتين، حتى يحببوا الناس فيه. لكنه -رحمه الله- كان يفتقر إلى العلم والكمال، ناهيك عن ضعفه في الإنشاء والإملاء”.

فعلى مستوى البيئة الاستراتيجية الداخلية، عانت الدولة العثمانية من بطء كبير في النمو الاقتصادي دفع بسلاطين الدولة العثمانية والحكومات المتعاقبة إلى خفض النفقات مع مواصلة إثقال الشعوب الخاضعة لحكم الأتراك بالرسوم والضرائب، وإخضاع الإنتاج إلى رقابة حكومية صارمة، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى وضع اليد على ثروات بعض الأغنياء. ولعل عملية الإنهاك الضريبي هاته التي عانت منها الشعوب الخاضعة للسلطة العثمانية كانت دافعًا لهؤلاء لرفع مطلب الاستقلال فيما عرف تاريخيًّا بـــ “القضية البلقانية” وما أعقب ذلك من تفكك الدولة العثمانية الذي سيدفع القوى الأوروبية فيما بعد، إلى محاولة تقاسم تركة الرجل المريض من خلال فتح ملف: “المسألة الشرقية”.

إن الاطلاع على العديد من الكتابات التي أرَّخت لشخصية السلطان عبد الحميد الثاني تجعلنا نقف على توجهين أساسيين حكما سلوكه السياسي داخليًّا وخارجيًّا. وقد شكلت هزيمة الأتراك على يد روسيا القيصرية (1876م-1878م) الميلاد الحقيقي لهذين التعبيرين السياسيين اللذين يعتبران من أهم ما ميز التعبير السلوكي للسلطان عبد الحميد الثاني.

في هذا الصدد، شكَّل اندلاع الحرب الروسية العثمانية فرصة تاريخية للسلطان عبد الحميد الثاني لإعادة ترتيب البيت الداخلي في ظل تعقُّد العملية السياسية، وأيضا ظهور بوادر انقلاب الجيوش الانكشارية، التي كانت تشكل مركز ثقل عسكري مهم وتدين بالولاء المطلق لسلاطين الدولة العثمانية، وهو ما أصبح يهدد رأس الدولة واستمرار حكم آل عثمان. أمام هذا الانفلات في أدوات الضبط والربط بالمفهوم العسكري، ناور السلطان عبد الحميد الثاني، على استحياء، للظهور بمظهر الرافض لخوض الحرب مع روسيا لِيَزُجَّ بالقوات الانكشارية في هذه الحرب التي انتهت بهزيمة مذلة للأتراك، وهو ما أدى إلى استقلال مجموعة من جمهوريات البلقان.

على المستوى الجيوستراتيجي، كانت حصول دول البلقان على استقلالها مسألة وقت -فقط- في ظل استحالة استمرار مشاريع التوسع والمحافظة على المقاطعات العثمانية، التي كانت تكلفتها العسكرية والسياسية والمالية ضخمة جدًّا، خصوصًا بعد أن أُبرمت مجموعة من التفاهمات الأوروبية قضت بتصفية تركة الاستعمار التركي. هذا الواقع الاستراتيجي الجديد كان يُدركه السلطان عبد الحميد الثاني وهو ما جعله يتوقع نتائج الحرب العثمانية الروسية ويستثمرها داخليا لتركيز جميع السلطات في يده ويعلن بداية الحكم الفردي المطلق على ما تبقى من الأراضي الخاضعة للسلطنة العثمانية.

وبناءا على ذلك، انتظر عبد الحميد الثاني الوقت المناسب ليوجه رصاصة الرحمة إلى الطبقة السياسية في الداخل، إذ كان عام 1879م اللحظة التاريخية المناسبة التي أعلن فيها السلطان العثماني وقف العمل بالدستور، وحل مجلس المبعوثان (البرلمان)، واستعادة كامل السلطة التشريعية والتنفيذية وهو ما عبَّر عنه بقوله: “لقد تبين لي بأنني كنت على خطأ عندما حاولت أن أخدم أمتي بالسير على طريق والدي السلطان عبد المجيد وإنشاء المؤسسات الديمقراطية. أما الآن فإنني سأسير على طريق جدي السلطان محمود لأنني أيقنت الآن بأن طريق القوة هو الطريق الوحيد الذي أستطيع به أن أخدم الأمة التي حمّلني الله أمانة قيادتها والحفاظ عليه”.

سيحكم السلطان عبد الحميد الثاني الدولة العثمانية لثلاثة عقود بيد من حديد، إذ انفرد بالسلطة المطلقة بعد القضاء على جميع المؤسسات المنتخبة، وهو ما يؤكده المؤرخ التركي سليمان جوقة باش حين يقول: “بهذه الكلمات يكون السلطان عبد الحميد قد وجد ضالته المنشودة في أسلوب الإدارة الجديدة التي سوف يؤسسها مرسومة واضحة المعالم بارزة القسمات عقب تعطيله الدستور، ويتمثل هذا الأسلوب في الإدارة بأن تكون الدولة والأسرة الحاكمة كلتاهما أمانة في يد القوة والشدة. ولسوف يفعل السلطان كل شيء من أجل حماية الدولة وصيانتها، ولسوف يكون الأسلوب الذي نستمسك به في هذا السبيل ما يسمى إدارة السلطة المركزية أو ما يطلق عليه بالاستبداد المطلق”. (انتهى كلامه)

على مستوى السياسة الخارجية، شكلت هزيمة الدولة العثمانية أمام روسيا القيصرية فرصة تاريخية للحاكم العثماني من خلال اقتناعه بضرورة إعادة إحياء مفاهيم “الوحدة الإسلامية” واستدعاء مشاريع “الخلافة” باعتبارها مقدمات لشرعنة إخضاعه باقي الدول الخاضعة “ولو صوريا” لسلطة العثمانيين. هذا التحدي الجديد فرض -منطقيًّا- التوجه نحو الجنوب لمحاولة إحكام القبضة العسكرية على جزيرة العرب والأماكن المقدسة وخصوصًا الحرمين الشريفين والقدس الشريف بالنظر إلى الرمزية الدينية القوية التي تميزهم كمراكز ثقل العالم الإسلامي وهو ما تم تجسيده من خلال مشروع سكة حديد الحجاز الذي أنشئ استجابة لإكراهات عسكرية محضة رغم استغلال الدين الإسلامي الحنيف في عملية الحشد والتمويل، حيث تُجمع الشهادات التركية أو المحايدة بأن المسلمين موَّلوا المشروع كاملاً، كما لجأوا إلى “نظام السخرة” في عمليات تشييد هذا المشروع الضخم، وهو ما أدى إلى وفاة المئات الذين كانوا يعملون في ظروف تفتقر إلى أبسط شروط السلامة الإنسانية والكرامة الآدمية ومقوماتها.

ولرصد هذا التداخل بين الأهداف السياسية والأدوات الدينية، يقول الصحفي مأمون خلف في مقالة نشرها بعنوان: “قصة السلطان عبد الحميد كما لم يروها لك الإسلاميون أو العلمانيون” ما نصه: “وكان الهدف منها تحقيق الوحدة السياسية للمتبقين ممن لا زالوا يعيشون في كنف الدولة العثمانية من خلال إعطائهم إحساسًا بهوية سياسية واجتماعية تقوم على الرابطة الدينية”. ويمكن القول بأن السلطان عبد الحميد الثاني رأى في تبني أطروحة الوحدة الإسلامية أداة ووسيلة استراتيجية لمواجهة الأطروحات القومية من جهة، وأيضا لمواجهة الأطروحات الليبرالية التي بدأت تخترق الطبقة السياسية في الأناضول. هذا الطرح تؤكده مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني التي ذكر من خلالها بأن: “الدولة العثمانية تضم أجناسًا متعددة من أتراك، وعرب، وألبان، وبلغار، ويونانيين، وسود، وعناصر أخرى، وبالرغم من هذا فوحدة الإسلام تجعلنا أفراد أسرة واحدة”.

إن الهدف من إعادة سرد بعض الوقائع التاريخية هو دراسة مناحي السير التاريخي لتوقع التراكمات المستقبلية وإسقاطها على واقع المنطقة العربية والإسلامية. هذه المحددات “التاريخانية” تجد ما يبررها في تحليل النمط السلوكي الحالي للعثمانيين الجدد، الذين فشلوا في إيجاد موطئ قدم لهم داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي ليوجهوا بوصلتهم الاستعمارية نحو الدول العربية عبر إعادة الحشد والتعبئة حول مشاريع “الخلافة العثمانية” واستغلال بعض التنظيمات الحزبية لتصريف الأجندات التركية، وهي نفس الأجندات التي تحطمت على صخرة الإرادة الشعبية العربية قبل قرن من الزمان ولا شك أنها في الطريق، أيضا، إلى الاندحار في ظل المؤشرات التي تتقاطع حول رغبة الرئيس رجب طيب أردوغان فتح صفحة جديدة مع دول المنطقة، وهو الملتمس الذي تتم دراسته بعمق وتريث كبيرين من طرف صانع القرار العربي إعمالا لروح الحديث الشريف “لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين”.