تعذيب ممنهج خلف حفلات القصور العثمانية الباذخة

ما الأسرار التي كشفها رئيس آغاوات عبد الحميد في مذكراته؟

قبل عصر التدوين كانت الروايات تُحفظ في الصدور، يتناقلها الرواة شفهيًّا فتصل إلىى الباحث، هذه الآلية البسيطة هي من أوصلت إلينا كل كتب التراث العربية والعالمية، وتلك العملية أيضًا هي ما أثبتت أنه ليس هناك قوة على وجه الأرض تستطيع منع الحقيقة من الوصول.

الطغاة تجاهلوا تلك الحقيقة وفرضوا السريًّة خشية فضحهم، وحبسوا من سوّلت لهم أنفسهم الحديث، تمامًا مثل سلاطين الدولة العثمانية، الذين من فرط إصرارهم على فرض السرية وخشية الفضيحة لم يكتفوا بحبس من تُسول لهم أنفسهم الحديث، بل أقدموا على قتلهم فورًا، ولأن سلاطين الترك لم يفعلوا شيئًا في حياتهم سوى اللهو والجلوس في الحرملك حيث المكان المخصص لجواري وزوجات سلاطين الترك، قتلوا كل من حاول الاقتراب من هذا الجزء الغامض في قصور الحكم.

لهذا فإن مذكرات خير الدين آغا رئيس الآغاوات في زمن السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909)، التي حملت اسم “أسرار الحريم في البلاط العثماني”، وصدرت بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، تلك المذكرات تعد من أهم الكتب التي كشفت ما كان يدور في الحرملك بشكل تفصيلي، وبانوراما حقيقية لسلوك بني عثمان.

قيمة أخرى أضافها خير الدين آغا بمذكراته تلك، وهي أن معظم المصادر التاريخية التي استطاعت أن تكشف بعض ما يدور داخل قصور الدولة العثمانية التي حكمت العالم الإسلامي نحو خمسة قرون أورثته الجهل والتخلف بعد أن كان في صدارة الأمم، اعتمدت تلك المصادر على مشاهدات سريعة ومؤرخين كانوا قريبين من الأحداث ووثائق تم كشفها.

أما مذكرات خير الدين آغا فهي تمثّل لسان الضحايا أنفسهم، ممن عاشوا في ظل الاستعباد وشاهدوا بأعينهم كيف تدار الأمور في الدولة العثمانية، ناهيك أنه لم يتوقع أحدٌ من سلاطين الترك أن أحد الآغاوات سيكشف يومًا كل شيء وهذا يضاعف من أهمية تلك المذكرات.

ومن الصفحة الأولى لكتاب “أسرار الحريم في البلاط العثماني” يصحبنا خير الدين آغا لنرى الأمور كما رآها هو بعين طفل صغير ساقه حظه البائس إلى الخدمة في قصور بني عثمان في وقت السلطان عبد العزيز الأول (1830-1876)، وبعد أن تعرض للإخصاء وهو أبشع الجرائم الإنسانية التي نهى عنها الدين الإسلامي، يبدأ الطفل الصغير الذي أبهرته زخارف القصور وبذخ الهدايا التي تنتشر في كل ركن، من تلقى التعليمات التي لابد أن يخضع لها كل من عمل داخل الحرملك.

التعليمات صارمة ومن يخالفها لعله يُقتل، هكذا أوضح خير الدين آغا الذي تذكر كيف خضع في البداية للمشرفة على الحرملك السلطاني، التي أبلغته بأول قواعد العمل في الحرملك، وهي أن يكون أصما وأبكما وأعمى، ففي الحرملك يجب ألا يسمع شيئا وإذا سمع لا يتكلم، كما أنه لا يرى شيئا وإلا تعرض لعقوبة الجلد الشديد.

لكن في نظام العبودية الذي أسسه سلاطين الترك وتفنّنوا في وضع قواعده حتى بات أسوأ نظم العبودية على مر التاريخ، لم يكن الجلد مصير إفشاء الأسرار، بل يمكن الجلد بسب سؤال بسيط حتى لو كان عاديًّا، فمن قواعد العبودية التي فرضها بنو عثمان على الآغاوات أنه لا يحق لهم السؤال عن أبسط الأشياء.

وقد تعرض خير الدين آغا -حسب روايته- إلى الجلد بسبب تجرُّئِه على توجيه سؤال، كما حكى كيف أن بعض الخصيان تعرضوا لعقوبات جلد شديدة بسبب أسئلة بسيطة كأن يستفسروا عن كيفية الوصول إلى مكان لم يعرفوه بسبب حداثة عهدهم في القصور العثمانية لكن حتى ذلك لم يشفع لهم، ذلك الذي دفع خير الدين آغا لوصف الأمر بعد وفاة أكثر من آغا متأثرًا بجراحه بسبب الجلد، إن ما يحدث كان تعذيبًا ممنهجًا في ظل عدم وجود أي حماية.

خضع العبيد للتعذيب والقتل دون ذنب.

بل إنه إذا اشتكى أحد الخصيان للشرطة سوء معاملة رئيسه فإن الشرطة لا تعتد بكلامه؛ لأنه عبد فاقد الأهلية ومن ثم يُقبض على هذا العبد ويسجن بتهمة إساءة سمعة البلاط العثماني!

كما يكشف خير الدين آغا باعتباره أحد الذين عاشوا في هذا النظام الاستعبادي، أن الآغاوات ظلوا سجناء القصور العثمانية وقليل منهم من سُمح له بالخروج، وعادةً مَن يسمح لهم هم أصحاب مناصب في نظام الآغاوات الذي وضعه سلاطين الترك، وبسبب هذا السجن الطويل ارتبط عدد من الآغاوات ببعض جواري وزوجات سلاطين العثمانيين، بل إن بعض الآغاوات كانوا يغارون على هؤلاء النسوة، ويمتلئ التاريخ العثماني بكثير من التحالفات بين الآغاوات ونساء الحرملك، بل يَعُجُّ بقصص عشق زلزلت القصر العثماني نفسه.

وبالإضافة إلى منظومة العبودية التي خضع لها الآغاوات، يأخذنا خير الدين آغا في بدايات كتابه “أسرار الحريم في البلاط العثماني”، إلى وجه آخر ظل سلاطين الترك يخفونه، وهو وجه البذخ والإسراف في الوقت الذي عاني فيه المسلمون من الفقر والجوع.

ولعل المثال الأكبر على هذا البذخ وصرف أموال المسلمين، على الحفلات السلطانية في البلاط العثماني، ما كشفه خير الدين آغا أن أي حفلة سلطانية كان يسبقها تجهيزات كبيرة لعدة أيام وربما لأسابيع من أجل تجهيز ملابس الاحتفال والأموال الطائلة التي تنفق في هذا السبيل، بل إن تلك الحفلات تحولت إلى سبب لغيرة نساء القصر من بعضهن البعض، فكل واحدة كانت تحيك مؤامرة لمعرفة ماذا سترتدي غريمتها في الحفلة السلطانية حتى ترتدي مثلها أو أفضل منها حتى لا تنفرد إحداهن بإعجاب السلطان.

الحفلات السلطانية كانت عنوانًا للبذخ والمجون.

تلك المنافسة التي قد يظنّها البعض تافهة هي في الحقيقة مهمة؛ فإن إعجاب السلطان بجارية كان يعني إعطاءها مكانة خاصة بحسب بروتوكلات القصور العثمانية، بل يمكن أن تصبح تلك الجارية -كما حدث كثيرًا- زوجة للسلطان وأم أولاده الذين سيتولون العرش لاحقًا.

ويكشف كتاب خير الدين آغا تفاصيل تلك الحفلات السلطانية التي خضعت لنظم كثيرة بداية من اختيار الملابس الفخمة زاهية الألوان باهظة التكاليف، وكيف كان يستعد العازفون والراقصات غير المسلمات حسب البرتوكولات العثمانية، بالإضافة إلى أوامر السلطان العثماني التي تتعلق بدعوة ضيوف الحفلات، ومواعيد افتتاح الحفلة وانتهائها، وكانت تلك الحفلات -رغم تكلفتها الباهظة- تتكرر بشكل دوري.

أما عن العالم السري لحريم السلطان، فيُدخلنا خير الدين آغا إليه ليكشف حقيقة من زعموا الحكم باسم الإسلام، واتضح أنهم ليسوا إلا رجالا لهثوا وراء النساء وقضوا لياليهم بين الجواري اللاتي سلبن عقول بني عثمان، وليس أدل على ذلك من عثمان باشا الذي ترك زوجته في ليلة الزفاف ليقضي ليلته بين الجواري بعد أن أمرهن بأن يرقصن عرايا حوله وهو في حالة غريبة من النشوة مما أثار غضب زوجته، لكن هذا التصرف لم يكن غريبًا عن سلاطين الترك أنفسهم إذ هم من ابتدعوا حفلات الاستحمام التي يرقص فيها الجواري دون ملابس حول السلطان في حوض كبير، وهذا السلوك الشاذ ليس إلا مثالاً على منظومة من الأفعال الشاذة التي عُرف بها سلاطين الدولة العثمانية.

ترك سلاطين العثمانيين زوجاتهم وقضوا معظم أوقاتهم بين الجواري.

  1. مذكرات خير الدين آغا (رئيس الأغوات في عهد السلطان عبدالحميد الثاني)، أسرار الحرم في البلاط العثماني (بيروت: مكتبة السائح، 2016).