"ثورة" الغلمان:
أول ردة فعل عربية ضد سلطات الاحتلال الفارسية
لم يكن الاحتلال الإيراني ليمر دون خلق ردة فعل عكسية عند عرب الأحواز، الذين رفضوا الخضوع لسياسة الأمر الواقع وانتفضوا في وجه محاولات التفريس الممنهجة، وحاولوا الانتصار لقومِيَّتِهِم ولزعيمهم الشيخ خزعل ولانتمائهم العروبي. وذلك بالرغم من حالة الوَهَن العربي المرتبطة بسياق إقليمي معقد في ظل أن الصخرة العربية (المملكة العربية السعودية) كانت لا تزال تعيش مخاضًا داخليًّا سيؤدي إلى تأسيس الدولة السعودية الثالثة سنة 1932م.
في هذا السياق، سجل الأحواز ملاحم بطولية في مواجهة العجرفة الإيرانية، وأعلن أبناء الإقليم الثورة تلو الأخرى، وهي الثورات والانتفاضات التي لن تتوقف إلى ساعة كتابة هاته الأسطر، إذ لايزال عرب الأحواز يؤمنون بأن الانعتاق من نير الاستعمار يمر عبر مراكمة تاريخية، وعبر بذل الجهد والمال والدماء ولسان حالهم يقول “ما ضاع حق وراءه مطالب”.
ولعل أولى “ثورات” -مع التحفظ على التوصيف- عرب الأحواز تلك التي عرفت بـــ “ثورة الغلمان” كانت بتاريخ 22 يوليوز 1925م، تلك التي قادها جنود الشيخ خزعل وحرسه الخاص، وبقيادة ثنائية من شلش وسلطان وذلك ردًّا على اعتقال الشيخ خزعل الكعبي واحتلال إمارتهم العربية.
ورغم غياب التنسيق والتحضير الجيد، إلا أن وَقْعَ المفاجأة على الجيش الإيراني جعل جزءًا من هذا الأخير يهرب في اتجاه الكويت، تاركًا المحمرة بين أيدي الثوار لعدة أيام. وبعد مرور تلك المفاجأة سيعود الجيش الإيراني لدك الثوار بالمدفعية، وقتل معظم من شاركوا في الثورة، بالإضافة إلى سجن الكثير منهم وإعدامهم دون محاكمة، وتغريم الشيخ خزعل مبلغًا ضخمًا بذريعة التحريض على الثورة رغم أنه كان معتقلاً عندهم.
إن الكتابات التي تناولت موضوع الثورات الشعبية بطريقة علمية تُجمع على أن ردّات الفعل العفوية العاطفية غالبًا ما لا يكتب لها النجاح، ويكون مآلها الفشل، ومصيرها الإخفاق. ولذلك نجد أن منظري الثورات يتحدثون عن الشروط الذاتية والموضوعية للثورة، وعن الأداة الثورية، وعن مراحل ومقدمات الإطاحة بالسلطة المستعمرة.
في هذا الصدد، يمكننا تأصيل الشروط الثورية للوقوف على أسباب فشل “ثورة” الغلمان، ومن ثم الاستفادة من هذا الإخفاق الذي كان له من المساوئ أكثر بكثير مما كان له من المكتسبات بالنظر إلى الارتدادات السلبية التي خلَّفتها هذه “الحركة”، والتي تبقى أقرب إلى الانتفاضة منها إلى الثورة في بعدها الاجتماعي والسياسي.
ولعل أولى مقدمات الثورة، والتي لم يتَنَبَّه إليها الغلمان الذين انتقلوا من حالة البكاء على شيخهم إلى حالة رفع السلاح على الفرس، ضرورة وجود قاعدة مادية واعية قادرة على التحرك وفق توجيهات القيادة الثورية. تلك القيادة التي لم توجد على عهد الغلمان، أيضا لم يكن هناك تأطير للقاعدة الجماهيرية التي يمكن أن تحتضن المشروع الثوري.
أما الشق الموضوعي فمرتبط بضرورة وجود انشقاقات على مستوى السلطة السياسية؛ لأنها حينئذ ستصبح عاجزة عن احتواء الوضع الاجتماعي، وهو الشرط الذي كان متوفرا سنة 1925م، على اعتبار أن الفرس لم يكونوا قد بسطوا سيطرتهم المطلقة على إقليم الأحواز، ولم يكونوا مؤهلين لمواجهة ثورة شعبية تشترك فيها جميع مكونات الشعب الأحوازي.
ويبقى الشرط الثالث مرتبطًا بالطليعة الثورية القادرة على تأطير وتوجيه الثوار، ورسم استراتيجية المواجهة ضد المحتل الإيراني. وهنا نتقاطع مع ما طرحه علي نعمه الحلو في كتابه “الأحواز: ثوراتها وتنظيماتها” حين أشار إلى أن “العائلة الأحوازية كانت غير راضية عن تلك الثورة” لاعتبارات متعددة منها:
- تنسيق العائلة الخزعلية مع القبائل المصاهرة لها والتي تتلاقى معها في ضرورة الإطاحة بالاستعباد الفارسي، وهو التنسيق الذي أفشلته “ثورة الغلمان”.
- هروب العناصر العربية إلى العراق والكويت بعض انطلاق مسلسل التنكيل بالعرب الأحواز.
- غياب التنظيم والتنسيق قبل اندلاع هذه الأحداث.
إن هذه الأسباب وغيرها تجعل من انتفاضة عفوية للعشرات عاجزة عن مواجهة جيش منظم، قادر على إعادة رصِّ صفوفه في مواجهة تحركات لا مركزية بدون قيادة ثورية. ولعل ما يقع حاليًّا من انتفاضات أحوازية بين الفينة والأخرى يمتح من نفس الأخطاء التي ارتُكبت قبل قرابة قرن من الصمود العربي ضد الاستعلاء الفارسي. وذلك بالنظر إلى أن جميع الانتفاضات الأحوازية (أو معظمها) جاءت ردةَ فعلٍ عكسيةٍ على حدث أو جريمة أو استهداف فارسي للمكون العربي، ولم تكن، في عمقها، ثورة عارمة يسبقها التحضير والتنسيق والتوجيه الاستراتيجي بناء على هدف سياسي محدد وجرأة تكتيكية ذكية.
إن إعادة تناول الثورات الأحوازية لا يمكن أن يدخل في خانة الترف الفكري أو المتاع العقلي، وإنما للوقوف على الأخطاء التكتيكية والاستراتيجية ومحاولة البناء عليها رغم اختلاف السياقات والبيئات، وهو ما يقتضي تبني استراتيجية مرنة تحتفظ بنفس الهدف السياسي الأسمى مع تغيير تكتيكات الحشد والتنظيم والتحرك.
وبالإضافة إلى ما تقدم، تؤكد لنا -ما أطلق عليها- بـ “ثورة الغلمان” ضرورة تجاوز منطق رد الفعل اللحظي المؤقت، والمرور إلى مرحلة البناء والفعل، بالارتكان إلى قراءة ذكية دقيقة لمختلف الأدوات والوسائل التي يتوفر عليها النظام الإيراني، ومن ثم القيام بعملية التنزيل للرسم الاستراتيجي المراد اتباعه.
وهنا يمكن التأكيد على ضرورة تفادي نقاط قوة العدو، واستهداف نقاط ضعفه، مع التركيز على توحيد الجبهة الأحوازية، والالتفاف حول قيادة سياسية موحدة، وأيضا اعتماد منطق التشبيك في مواجهة القوات الفارسية، دون إغفال عملية التنسيق الموضوعي مع باقي المجموعات العرقية، التي تحمل نفس الطموح العرقي والحلم السياسي في تأسيس كيانات مستقلة عن إيران، أو على الأقل النجاح في نيل حكم ذاتي يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل منطقة على حدة، والتي يجب أن تُسَيَّرَ شؤونها من طرف السكان الأصليين تحت السيادة الفارسية.. ولو إلى حين.