سلطانة الريام الجزائرية

زفيرة... التي قابلت الموت حفاظًا على شرفها من أن يدنسه قراصنة الترك

دخل العثمانيون إلى الجزائر متسللين بذريعة نجدتهم من الغزوات الإسبانية، وفرح الجزائريون واستقبلوهم في بيوتهم وأدخلوهم مدنهم، وغنّوا لهم في الشوارع، وما أن احتلوا المكان حتى عاثوا فيه فسادًا، وعاملوا السكان الأصليين عبيدًا ووضعوهم في طبقة أدنى من العرق التركي، كعادة اللصوص وقطّاع الطرق حينما يسيطرون.

حينما استنجد سلطان الجزائر سالم التومي بالعثمانيين؛ أرسلوا له القرصانين البحريين المشهورين الأخوين عروج وخير الدين بربروسا – وهما لصان وقرصانان مشهوران-، لم يكن السلاطين الترك في إسطنبول ينوون إرسال عسكرهم النظامي، بل أرسلوا القراصنة، فإن انتصروا كان لهم فضل النصر، وإن هُزموا قالوا للإسبان والأوروبيين والذين ارتبطوا معهم بعلاقات مميزة، ليسوا محسوبين علينا بل هم قراصنة ولصوص.

وتؤكد المصادر التاريخية أن الأخوين عروج وخير الدين، لم يكونا من عمال السلطنة العثمانية، بل قرصانان يجوبان البحر للنهب والسلب، واختلف المؤرخون حول بداية التحالف بين العثمانيين والأخوين عروج وخيرالدين، فيذكر بعضهم أن سليم الأول كان وراء إرسالهما إلى الساحل الإفريقي تلبية لطلب المساعدة من سكان الشمال الإفريقي، بدلًا من جيشه العثماني، الذي استخسر إرساله، خشية على علاقاته مع الفرنسيين والإسبان.

ويُرجع بعض المؤرخين التحالف بين الجانبين إلى عام (1513) في أعقاب استيلاء عروج وخير الدين لميناء جيجل، حيث أرسل الأخوان إلى سليم الأول مجموعة من النفائس التي سرقوها بعد الاستيلاء على المدينة، فقبلها ورد عليهما الهدية بإرسال أربعة عشر سفينة حربية مُجهزة بالعتاد والجنود، لإكمال الاستيلاء على الجزائر، وكان الرد من السلطان العثماني يعكس رغبته في استمرار نشاط القرصانين الأخوين في الجزائر باسم الأتراك.

 عُيّن خير الدين بربروسا حاكمًا عامًا على مدينة الجزائر، وممثلا للسلطان العثماني، وبذلك أصبحت الجزائر تحت ظلم الأتراك واحتلالهم.

أما السلطان سالم التومي والجزائريين فقد استقبلوا القراصنة بأخلاقهم العربية، باعتبارهم ممثلين للعثمانيين، لكن عروج باشا وبقية القراصنة تعاملوا مع السكان بالاستبداد والفوضى، ما أدى إلى ضجر السكان من تصرفات الأتراك الذين كانوا يعاملون الجزائريين معاملة فظة، وهنا حاول السلطان سالم التومي استدراك خطئِه في استدعاء الأتراك إلى حديقته ومنزله وسلطنته، لكن الأمر كان قد فات؛ إذ ذهب عروج إلى بيته وقتله بيده في الحمام وهو خارج لصلاة الظهر، ليظهر عروج على العامة معلنًا نفسه سلطانًا على الجزائر.

هذه هي القسوة المتكررة في كل بلد احتله العثمانيون، أما سياستهم الموحدة فهي الحيلة والتفرقة وإثارة الخلافات بين أبناء العائلة الواحدة، وبين القبائل والأسر، متخذين سياسة “فرق تسد”، ناهيك عن التطهير العرقي والتتريك.

ولم يكتف عروج بقتل “سالم التومي”، واغتصاب مملكته، بل تخلى عن أي خلق قويم، وحاول الزواج قسرًا من الأميرة زفيرة، زوجة السلطان المغدور وهي في عدتها بعد موت زوجها، لكن الأميرة زفيرة  مثلت المرأة الجزائرية والعربية خير تمثيل، بصمودها في وجه الطاغية القرصان عروج، الذي استولى على مملكتها.

المخُزي في قصة الأميرة زفيرة، أن الأخوين عروج وخير الدين بربروسا، تنافسا على اختطاف الأميرة واسترقاقها، كلٌ لنفسه، ولم يردعهما دين ولا أخلاق أو مرؤة، بعدما صفا لهما الجو إثر قتلهما السلطان الجزائري الشرعي.

يقول الباحث الجزائري كامل الشيرازي في منشور مهم له عن الحقبة العثمانية في الجزائر: “ما يزال التعتيم يطغى على أشهر جريمة ارتكبها القائدان التركيان، عروج وخير الدين بربروسا، قبل خمسة قرون، بالجزائر؛ حين قتل الشقيقان البحّاران آخر سلاطين الجزائر، سالم تومي، قبل أن يسعى كلّ واحد منهما للزواج غصبًا من الأميرة زفيرة، التي فضّلت الانتحار على الرضوخ لرغبة قاتلي زوجها”.

وخلافاً لمحاولة الأتراك تلميع تواجدهم بالجزائر، بين عامَي (1516-1830)، فالتاريخ يكشف الحقيقة دائمًا مهما حاول كثيرون إخفاءها، ورغم تجاوزات بعض المؤرخين وسكوتهم عن جرائم الاحتلال التركي للجزائر إلا أن المصادر تكشف عِظم الجرائم التي اقترفها الأتراك، وأكثرها بشاعة؛ تلك التي مارسها مع الأميرة زفيرة.

فبعد أن قَتَل عروجٌ التوميَّ حاول المرة تلو الأخرى استمالة قلب الأميرة زفيرة، لكنها بقيت وفِيَّة لزوجها المغدور، ورفضت أن تخونه، فما كان من القرصان عروج إلا أن اقتحم مخدعها، وحاول الاعتداء عليها، وسلب شرفها، وفي ليلة اقتحام مخبئها استلت الأميرة العربية خنجرًا كانت قد خبأته خوفًا على نفسها من عروج وأخيه، وقاومت مفضلة الموت على الخيانة، وهاربة من أن يُدنس شرفها اللص اليوناني التركي الذي أرسلته إسطنبول ليكون قرصان الجزائر ومندوبها فيها، لذلك ما إن قاومت حتى عاجلها سيف الغدر بقتلها. وفي روايات تاريخية أخرى تقول بأنها قتلت نفسها بالخنجر الذي كانت تخبئه في مخدعها لتوقعها الخيانة من عروج وأخيه.

خان الأخوان بربروسا السلطان سالم التومي وقتلوه بعد أن فتح لهم أرض الجزائر بحجة مقاومة الإسبان معه.

وتشير الباحثة عائشة حمي إلى أن الأميرة زفيرة التي عاشت في الفترة (1489 – 1516)، ظلّت تردّد: “لبؤة أنا، أميرة شامخة في ساح الأسود، على الوعد أكون، على شرفي أحمل السيف، وعلى أرضي أُسيل دمائي فداءً للزهور”.

وذلك بعدما تعرضت إلى ألوان دنيئة من المساومات على شرفها، من الأخوين اللصين الغادرين بزوجها، وسعى عروج -بشكل خاص- لإقناعها بالزواج منه، لقاء سيل من المغريات، لكنّ بنت الجزائر خاطبته كما تقول الباحثة عائشة حمي : “أنا امرأة من دماء زكية، علمتني الحياة معنى الشرف والوطنية”.

وقد خلّد الجزائريون عبر تراثهم الشعبي، بطولات الأميرة زفيرة في قصائدهم، إذ أظهر الشاعر الشعبي الجزائري الكبير، محمد بن مسايب، تضحية الأميرة زفيرة في قصيدته العنقاء “سلطانة الريام”:

  1. ياتسيك ماخوفسكي، تاريخ القرصنة في العالم، ترجمة: أنور محمد (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008).

 

  1. حسان كشرود، رواتب الجند وعامة الموظفين وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية بالجزائر العثمانية، رسالة ماجستير، جامعة منتوري (2007).

 

  1. وليد فكري، الجريمة العثمانية (القاهرة: الرواق للنشر والتوزيع، 2021).

 

  1. مذكرات خير الدين بربروسا، ترجمة: محمد دراج (الجزائر: شركة الأصالة، 2010).

 

  1. صالح عباد، الجزائر خلال الحكم التركي 1514-1830 (الجزائر: دار هومه، 2012).