كتاب "قرنان من الصمت" عبر عن ذلك

لماذا رفض الفرس الاشتراك مع العرب في هويةٍ واحدة؟

لم يكن ظهور كتاب “قرنان من الصمت” -للفارسي عبدالحسين زرين كوب في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي- استثناءً في الأدبيات الإيرانية المعادية للعرب، بل كان امتدادًا حقيقيًّا لها، وإعلانًا صارخًا لما يدور في كواليس النخب الإيرانية، بل حتى الثقافة الشعبية التي تأصل فيها العداء على مدى قرون لكل ما هو عربي.

الكتاب اعتبر أن إيران دخلت في حالة صمت خلال القرنين الأوَّلين من الإسلام، وهو اتهام مجحف لقرنين مدحهما الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: “خير القرون قرني هذا ثم الذي يليه”. ويصفهما الفرس الكارهون لكل ما هو عربي، بأنهما القرنان اللذان تليا هزيمة الإمبراطوريّة الفارسيّة الساسانية على يد المسلمين في معركة نهاوند. ويدين عبدالحسين في كتابه تحوّل إيران نحو الإسلام، ويتهم القادة والولاة العرب بـ “قمع الثقافة الفارسيّة وتجفيف منابعها”.

كتاب “قرنان من الصمت” استثنى العصر العباسي من ذلك عندما أعلن انتهاء “عصر الصمت” مع نهاية عصر هارون الرشيد، وتغلّب الخليفة المأمون، ومناصروه من الفرس، على شقيقه الأمين، ومن ثَمَّ وصول الفرس إلى المناصب العُليا في الجيش والقصر العباسي، لتبدأ بذلك القومية الفارسية بالانبعاث من جديد؛ بل إنّ عبدالحسين زرين كوب، يجعل من الحضارة العباسية “حضارة فارسيّة بامتياز”.

ويرى كثير من الفرس أن العصر العباسي أحدث انقلابًا في مسار التاريخ لصالحهم، تلك النظرية تستند إلى نظرة سوداوية غاضبة يحاكمون فيها القرنين الأوَّلين من التاريخ الإسلامي بقسوة وعنصرية، ويصورونهما بسنوات من الصمت والعزلة سادت الثقافة الفارسية، ولم يحررها إلا وصول الخليفة العباسي المأمون إلى الحكم بعد تغلبه على أخيه الأمين، قرنان من العزلة الثقافية التي فُرِضت بالقوة على فارس كما يزعمون، بل سميت في أدبيات كثيرٍ منهم بـ “قرنان من الصمت”.

رفض الفرس الانصهار في الإسلام

لم يجد الفرس من طريقة لمقاومة الإسلام إلا الانغلاق على ثقافتهم الفارسية، والبقاء في حالة استنفار حتى يستطيعوا استعادتها بكل ما فيها من أساطير دينية وأحلام ساسانية، ولقد استطاعوا تحقيق ذلك مع بداية العصر العباسي، حين تسللوا داخل القصر وتمكنوا منه، وفي بحث منشور بصحيفة النهار اللبنانية تحت عنوان العرب والفرس بين الانصهار والصراع يؤكد محمود الزيباوي أن عبدالحسين زرين كوب في كتابه “قرنان من الصمت” يجسد التيار القومي الإيراني المتشدد والافتخار العجمي الذي يجعل من الحضارة الإسلامية حضارة فارسية فحسب. صدر هذا الكتاب في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، وحصد نجاحاً جماهيريًّا واسعاً، وسعى فيه المؤلف إلى إبراز صمت إيران في خلال القرنين اللذين تَلَيَا الفتح الإسلامي لإيران، إثر هزيمة الإمبراطورية الساسانية في معركة نهاوند. ويدين الكاتب الفتحَ الإسلاميَّ لإيران، ويتَّهمُ القادة والولاة العرب بقمع الثقافة الفارسية المحلية وتجفيف منابعها. ومن جهة أخرى، يتبنى المؤلف الفارسي المقولة الاستشراقية التي تجعل من الحكم الأموي حكمًا عربيًّا، ومن الحكم العباسي حكمًا فارسيًّا، ويجعل من الحضارة العباسية حضارة فارسية بامتياز.

لماذا يعتبر الفرس العصر العباسي فارسيا

يرى عبدالحسين زرين أن العصر العباسي -خاصة منذ حكم المأمون- هو بداية الانعتاق من عصور الصمت التي كبَّلت الحضارة الفارسية -حسب زعمه-،  لا لشيء ولكن لأن الفرس اخترقوا بنية الحكم العباسي وسيطروا عليها تحت نظر الخليفة المأمون وسمعه واستطاعوا التمدد والتغلغل في مرافق الدولة بعد ذلك، يقول خالد بشير في بحث نشر له في موقع حفريات: على مستوى الحراك الفكري والأدبيّ، شهدت المرحلة الجديدة بروز التيار المعروف بـ “الشعوبية”، وهو التيّار الذي حاول المجادلة والتفنيد لمقولة أفضلية العرب، التي اعتبرت ردّ فعل على الأطروحات القوميّة العربيّة التي راجت وسادت طيلة العصر الأمويّ.

اعتزت الحركة الشعوبيّة بالتراث الفارسيّ، ودعت إلى إحيائه من جديد، ورفعت شعار “أفضلية الشعوب الأخرى على العرب”؛ ردًّا على النزعة العربية التي ترى أنّ العرب “خير الأمم”، ومن الشعوبيّين من ذهب إلى أبعد من ذلك، فيتحدث الجاحظ في كتابه “البخلاء” عن طائفة من الشعوبية كانت تسمى “الآزادمرديّة”، كانوا يرون بُغضَ العرب، وأنّه لا تفضيل لهم على العجم، ويقول عنهم: “وهم الأشدّ تعصباً للفرس”.

صورة العربي عند الفارسي

تقول جويا بلندل سعد في كتابها “صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث” عن العرب في الأدب الفارسي: “تظهر صورة العرب بوصفها جزءًا من الإجابة عن سؤال الذات الإيرانية، حيث شكل مفهوم «الإيرانيَة» هاجسًا أدبيًّا، بل مشكلة سياسية واجتماعية انعكست في الأدب، بوصفها مشكلة البحث عن الهوية التاريخية والثقافية والقومية، فلجأ كتاب الأدب الإيراني الفارسي الحديث إلى تصوير إيران كأمة واحدة، من خلال تعريفهم للعربي بوصفه الآخر، وهو تعريف مقلوب للإيراني بوصفه الذات بمصطلحات العرق واللغة أحيانًا، وبمنظور الآخر بمصطلحات الدين والتاريخ والثقافة أحياناً أخرى، وهو مسعىً شكّل جانبًا من خلق القومية الإيرانية في القرن العشرين المنصرم.

وترى المؤلفة بأن النزعة القومية الإيرانية هي قيمة ملحة في الأدب الفارسي الحديث، نلتقطها من خلال وصف التاريخ الاجتماعي واللون المحلي والعادات واللهجات وسوى ذلك. وتعني النزعة القومية الولاء والإخلاص للأمة، وحسب “شاه رخ مسكوب”، فإنه منذ مجيء الإسلام إلى إيران، تأسس الوعي القومي الإيراني على اللغة الفارسية وعلى تاريخ ما قبل الإسلام، بالنظر إلى عاملي التاريخ واللغة، وعليه تمّ تعريف إيران كأمة من خلال اللغة والتاريخ المشتركين، لكن واقع الحال يشير إلى أن إيران بلدٌ ذات تنوع إثني كبير، فهناك الفرس والكرد والعرب.

كيف وصفوا العرب؟

تضيف جويا سعد: “مع بداية الوعي القومي الحديث في إيران، سعى المفكرون العلمانيون إلى تأسيس تعريف جديد لمفهوم “الإيرانية”، بُني على ماضي ما قبل الإسلام، فصور بعضهم إيران ساسانية وأخمينية دمّر حضارتها المزدهرة البدو المتوحشون”، ويرى الإيراني ميرزا آغا كرماني في الإسلام دينًا غريبًا، فُرض على الأمة الآرية النبيلة – يقصد الإيرانيين -، من قِبَل “حفنة من آكلي السحالي، الحفاة العراة، بدو يقطنون الصحراء، إنهم العرب المتوحشون”.

التاريخ لا يكذب

علاقة العرب بفارس كانت تسير في مسارين مختلفين، العرب يتعاملون مع الفرس كجزء من الأمة الإسلامية، لهم مالهم وعليهم ما عليهم، وساد ذلك مع الروم والأقباط والسند والأفغان وغيرهم من الأعراق التي اندمجت مع العرب المسلمين، مكونين أمة واحدة، لكن الفرس أو لِنَقُل بعضًا منهم بقي متألمًا متحسرًا على سقوط كِسرى وانهيار إيوانه في معركة القادسية الكبرى، وبقيت تلك الحادثة عقبة أمام اندماجهم في الأمة الكبرى، وحاول كثير من أولئك البقاء على فارسيتهم إلى اليوم.

ففي دراسة متعمقة نشرتها رابطة أدباء الشام حول صورة العربي المسلم في المناهج الدراسية الإيرانية؛ نجد أنها لا تختلف عن سياق العداء والاستعلاء الفارسي المنتشر في معظم الأدبيات – نثرًا أو شعرًا-، وفيها يجري تحميل العرب مسؤولية الفشل الحضاري الذي منيت به فارس، ليس بسبب المسلمين العرب كما يزعمون، بل لأن الحقيقة التاريخية تؤكد أن الفرس لا يملكون أدوات التحضر التي تمكنهم من بناء سمعتهم الحضارية المنفصلة عن الإسلام.

هذا الموقف الفارسي المتشدد المناهض للثقافة العربية ليس منثورًا في المناهج الدراسية فحسب، بل هو أيضًا موقف كبار الأدباء في التراث الفارسي القديم؛ فالشاهنامة -ملحمة الفردوسي الشهيرة- تنتهي صفحاتها بالتباكي بقدوم العرب المسلمين والقضاء على الدولة الساسانية واحتلالها. وقد صوَّر العرب فيها على أنهم أقل مدنيَّة من الفرس.

وعلى هذا الأساس وضع الفردوسي ملحمته التي تخلو من أي شاعرية وأسماها الشاهنامه بمعنى ملك الكتب، واضعًا جُلَّها في شتم العرب وتحقيرهم، وتمجيد الفرس وملوكهم؛ وراح العنصريون الفرس يُحَفِّظُونَ أبناءهم و يغذونهم بهذه القصائد والأشعار العدائية.

الصدام الحضاري بدأ برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم لكسرى

يقول الدكتور نبيل العتوم: “لم يقبل الفرس العرب في القديم، فكيف يقبلونهم بعد أن نزلت الدعوة بين ظهرانيهم، لذا نجد أن كسرى عندما أرسل إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، استشاط غضبًا، ومزَّق كتاب رسول الله وذاك حينما استمع لأول الخطاب يذكر اسم النبي محمد، قبل اسمه، فغضب حينها وقام من فوره بتمزيق الكتاب وقال: عبدٌ حقير من رعيتي يذكر اسمه قبل اسمي”.

ولم تمض إلا سنوات قلائل حتى استطاعت جيوش المسلمين القضاء على أسطورة الدولة الفارسية في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطّاب – رضي الله عنه-، ومنذ هذه الهزيمة بدأت الشعوبية الفارسية ضد العرب، وبلغت ذروتها في اغتيال أبي لؤلؤة الفارسي الخليفةَ عمر الذي وضع أساس الدولة الإسلامية (العربية)، وما زال الفرس يحجون إلى مقام أبي لؤلؤة في إيران، ويسمّونه (أبا شجاع)؛ لأنه انتقم للفرس بعد هزيمة القادسية بقتل عمر بن الخطاب.

موقف كسرى من رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت أول تعبير شعوبي رفضوا به العرب استعلاءً.

ومع دخول الإسلام إلى إيران، تمسك الفرس بكل عناد بثقافتهم الفارسية ولغتهم ووضعوا قوميتهم في موازاة ديانتهم وربما فوقها وقبلها. وهو ما يكشف -بجلاء- عن ظاهرة العداء المتأصلة في بنية العقل الفارسي الإيراني ضد العرب رغم أنه كان من المفترض إنهاء هذا الصراع التاريخي بعد دخول الاثنين في كنف الدين الإسلامي كان للفتح الإسلامي لبلاد فارس أثره العميق في النفسية والعقلية الفارسية المجوسية، والذي بدوره شكل عُقدة نفسيّة مؤلمةٍ هي “المجدُ الخالد للفرس”. فالفرس حتى ذلك التاريخ كانوا يعتبرون أنفسهم سادة العالم. وارتبط في العقلية الفارسية منذ القدم الرغبة في السيطرة، بل التفرد بها، ونفوذها السياسي يسيطر على أراضي إيران، والعراق، وشرق الخليج، وبعض غربه، واليمن. وقد خلق ذلك للفرس ما يمكن تسميته بالنظرة الاستعلائية على كل الشعوب بما فيهم العرب.

والحقيقة أن الفرس ظلوا منذ اللحظة الأولى وحتى الآن يرفضون الاندماج الكامل في الهوية الإسلامية الجامعة، وسعوا -دائمًا ولا يزالون- إلى الثأر من هزيمتهم التاريخية أمام العرب، ولهذا تهافتوا بسرعة لتبنّي الدعوة الصفوية التي حولت إيران من دولة سُنِّيَّة المذهب إلى أول دولة شيعية في التاريخ الإسلامي. وقد استمر سلوكهم العدواني على مدار الزمان، بغض النظر عن طبيعة الحكم في فارس.

  1. جويا سعد، صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث (دمشق: قدمس للنشر والتوزيع، 2007).

 

  1. نبيل العتوم، صورة العرب في الكتب المدرسية الإيرانية (عمَّان: مركز أمية ودار عمار، 2015).

 

  1. خالد بشير، “كيف ينظر الفرس إلى العرب؟”، موقع حفريات على الرابط: https://hafryat.com

 

  1. محمود الزيباوي، “العرب والفرس بين الانصهار والصراع”، صحيفة النهار (2014) على الرابط: https://www.annahar.com