المقاومة الشرسة أرهقت القائد العثماني إبراهيم باشا
الإمدادات والعتاد العسكري أسقط الدرعية رغم انتصار السعوديين في "البليدة"
أثبت التاريخ أن سلاطين العثمانيين لم يدخّروا جهدًا في السعي من أجل إسقاط الدولة السعودية الأولى، وعلى رغم هزيمتهم في مواجهتها في أكثر من معركة قادها ولاتهم الذين رجعوا يجرّون أذيال الخيبة بعد هزيمتهم على يد السعوديين، إلا أن العثمانيين استمروا على عنادهم وإرهابهم في وأد أي محاولة عربية للنهوض، ذاك مبدأٌ سار عليه سلاطينهم، لفرض استمرار استعمارهم واستنزافهم للحضارة العربية.
وأكثر من عانى من الحرب ضد السعوديين قوات والي العثمانيين في مصر محمد علي باشا، إذ إن قواته منذ نزولها إلى الجزيرة العربية واجهت مقاومة شرسة، يعود ذلك إلى إيمان السعوديين بدفاعهم عن دولتهم وأرضهم، إضافةً إلى أن القوات العثمانية عانت من البيئة الجغرافية الوعرة، وبُعد خط الإمدادات التي تأتيها من مصر.
ولإصرار الوالي العثماني محمد علي على تحقيق هدفه في إرضاء السلطان العثماني وتوسيع نطاق نفوذه إلى الجزيرة العربية، حاول أن يُغير مصير الحرب بضخ مزيد من الجنود والعتاد، والبحث عن سبل أقوى في اتصال خطوط الإمداد لقواته الغازية، لذا لجأ بدايةً إلى استبدال قائد الحملة ابنه أحمد طوسون بابنه إبراهيم باشا، الذي كان أكثر حنكة وقدرة عسكرية، كما كان أكثر وحشية، بعيدًا كل البُعد عن القيَم الإنسانية.
وبوصول إبراهيم باشا إلى الحجاز تغير -إلى حدٍ كبير- التوازن العسكري للقوات العثمانية في الجزيرة العربية، لا سيما مع وصول الإمدادات من مصر وغيرها من الولايات مما استنفره السلطان العثماني، إضافةً إلى ضخ المزيد من قوة المدافع الحربية في القتال. ومع ذلك لم تكن المعارك سهلة على الإطلاق بالنسبة للعثمانيين في مواجهتهم للدولة السعودية الأولى، يُثبت ذلك ما حدث في حصارهم الرس سنة (1817م)، وما لاقوه من مقاومة على رغم تغيير استراتيجيتهم، وحجم القوات والعتاد الذي تضاعف عما كان عليه في حملة طوسون.
أصرَّ الوالي العثماني محمد علي على إسقاط الدولة السعودية الأولى إرضاءً لسلطانه العثماني ورغبةً في مد نفوذه للجزيرة العربية.
كانت خطة إبراهيم باشا بعد إسقاطه المدينة المنورة فتح الطريق إلى القصيم والسيطرة عليها سريعًا؛ لأنها الطريق الأسرع للوصول إلى عاصمة الدولة السعودية الأولى الدرعية، التي لم يتمكن من الوصول إليها إلا بشقِّ الأنفس سنة (1818م)، بعد أن أصرَّ على تدفق الإمدادات والعتاد الذي لم ينقطع من والده منذ نزوله الأراضي السعودية. وعلى رغم هذا الدعم الكبير؛ فإن المتتبع لظروف حملة إبراهيم باشا يلحظ الخسائر الكبيرة التي ألحقها به السعوديون على رغم إسقاطه للمدن والبلدات السعودية في طريقه للدرعية، غير أن خط الإمداد كان سببًا رئيسًا في وصوله الدرعية، إضافةً إلى نهج إبراهيم باشا في الوحشية والانتقام ممن يقع في يده من الأهالي أيًا كان، ذلك أحدث حالةً من الإرهاب الحقيقي، باعتبار أن العرب لم يعتادوا مثل هذه الوحشية واللا إنسانية التي واجهوها من القوات العثمانية، التي كانت تُسقط كل كرهها وإرهابها على البسطاء من الناس قبل المقاتلين، وخير مثالٍ على ذلك ما حدث في ضرما من وحشيةٍ عثمانية وإبراهيم باشا في طريقه إلى الدرعية.
ومع اقتراب إبراهيم باشا من الدرعيَّة تحصَّنت القوات السعودية فيها، استعدادًا للدفاع عنها أمام القوات العثمانية الغازية؛ إدراكًا من السعوديين بقيادة إمامهم عبدالله بن سعود أن الدفاع عن الدرعية ملحمتهم المهمة، وأنها حصنهم الأخير، لذلك لم يكن الطريق أمام العثمانيين سهلاً، إذ استمر السعوديون في الدفاع عن الدرعية لمدة ستة أشهر تقريبًا، أعجزوا خلالها إبراهيم باشا، وأحدثوا له إشكالات عدَّة بخسارة أفضل وأشرس مقاتليه على أسوار الدرعية التي رغم الحصار أذهلت الغُزاة، وجعلت قائدهم يعاني ويخشى ألا يصل إلى مبتغاه، رغم أن الظروف كلها كانت تشير إلى أنه بوصول القوات العثمانية خلف أسوار الدرعية ستنتهي المعارك.
وخلال الحصار العثماني للدرعية؛ دارت معارك عدَّة مثل: العلب، غبيراء، سمحة النخل، السلماني، شعيب قليقل، حريق المستودع وواقعة الرفيعة. وكانت أقوى المواجهات بين الجيش السعودي الذي دافع بشراسة عن أرضه أمام الغُزاة في شعيب البليدة؛ البليدة تقع التي في المنطقة الجنوبية من مدينة الدرعية.
ويصف المؤرخ السعودي عثمان بن بشر هذه الواقعة قائلًا: “وقعت عند البليدة الشعيب المعروف في الجهة الجنوبية، وقتل فيه من أهل الدرعية عدة قتلى، وقتل من الروم مقتلة، ثم وقعت عند البليدة أيضًا حمل الروم على أهل الدرعية في متارسهم واستولوا عليها، وحصل قتال شديد من بعد الظهر إلى ما بعد العصر، ثم حمل عليهم أهل الدرعية وأخرجوهم من المحاجي، وقتلوا من الروم عدة قتلى، واستولوا على قتلاهم”.
استمرت المعارك والمواقع بين كرٍ وفَر، واستمر حصار الدرعية إلى أن حدث الصلح وسقطت الدرعية في يد قوات إبراهيم باشا التي لم تصل لمبتغاها إلا بعد أن تكبدت خسائر كبيرة، وواجهت صمودًا كبيرًا من السعوديين الذين لم يفرطوا في عاصمتهم، لولا أن موازين الحرب لم تكن متكافئة.
ستة أشهر من الصمود السعودي في الدرعية جعل القائد العثماني يشك في قدراته وجيشه الجرار.
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
- بريدجز، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005).
- أمين سعيد، تاريخ الدولة السعودية (بيروت: دار الكاتب العربي، د.ت).
- عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).
- عبدالفتاح أبو علية، محاضرات قي تاريخ الدولة السعودية الأولى (الرياض: دار المريخ، 1991).
- فليكس مانجان، تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية، ترجمة: محمد خير البقاعي (الرياض: دارة الملك عبد العزيز، 2002).