المذبحة الأولى
"الساقط" في العوالي
في أول مواجهة عسكرية بين قائد الحامية العثمانية فخري باشا والعرب حول المدينة المنورة في بعض الأودية والقرى القريبة، هاجم فخري باشا حتى وصل إلى بساتين العوالي، وكانت المواجهة الحقيقية الأولى حين أطلقت حاميته نار مدفعيتها على البساتين، وقتل في هذه المواجهة كثيرون، حتى الذين استسلموا لقوات فخري أطلقت عليهم المدفعية، وراح يوجه مدفعيته على القرى المحيطة، التي لجأ إليها بعض العرب، وعمد إلى إرهاب من فيها حتى كبار السن من النساء والأطفال، الذي قتلوا تحت قصف المدفعية التركية بعد أن أحرقت منازلهم، واشتعلت النيران بجثث القتلى الذين كانوا يحاولون الفرار من وابل نار مدفعية فخري.
قام فخري باقتراف جريمة إنسانية ضد الآمنين في العوالي، باعتبارها أول جرائمه ضد أهالي المدينة المنورة، إذ لم يرعَ الرابطة الإسلامية ولا الإنسانية ضد كبار السن من النساء المقعدات اللاتي لم يستطعن الحركة، ولا الصغار وفجيعتهم جراء هذا الإرهاب، الذي كان بحجة القضاء على الثوار العرب.
وهذه جريمة ليس للتاريخ أن ينساها ولا يغفرها أو يجد لها مُسوِّغًا مهما كان، وليؤكد فخري باشا جريمته، يروى على لسان أحد المشاركين العراقيين في هذه المواجهة العسكرية مع الأشراف؛ أنَّ فخري خدع مجموعةً كبيرةً ممن جاءوا له مستسلمين من أهالي القرى في العوالي، وما أن عادوا إلى قُراهم؛ حتى أمر قواته بالاقتحام، وقتل كل من يصادفهم من الأهالي، لذا وصل عدد القتلى إلى المئات، أكثرهم من الآمنين نساءً وأطفالاً من غير الرجال المُسالمين الذين طلبوا منه الأمان.
يصف أحد الضباط العرب المشاركين في مواجهة العوالي الصدمة التي أصابت العرب المحاربين للأتراك، بأنه ليس من قواعد العرب انتهاك حرمة النساء أو قتلهن، وقتل الأطفال وتدمير الممتلكات.
تزامنت مع العوالي مواجهة أخرى بين قوات فخري والثوار العرب في آبار علي تكررت فيها هزيمتهم، وقُتل فيها أعداد كثيرة من المهاجمين العرب، وتعددت المواجهات بعد ذلك، إلى أن فكَّر فخري بتجنيد شبان المدينة المنورة ضد إخوتهم العرب، واستغلهم لصالح ظروفه؛ سعيًا منه إلى أن يقتتل العرب بينهم ليغطي جرائمه في العوالي، غير أن أمرًا كهذا لم يحدث حسبما كان يطمح إليه.
أراد للعرب أن يقتتلوا بينهم ليغطي جرائمه.
وباستمرار الوضع الحربي في الحجاز، كانت هنالك مجموعة من المواجهات غير الحاسمة، غير أن أبرز تلك المواجهات كانت قرب خيبر، هُزم فيها الأتراك وأُسِر قائدهم يناير (1917م)، وهذه المواجهة كانت تمثل تحولاً في المواجهة بين العثمانيين والأشراف؛ إذ إن فخري باشا أصبح يواجه الجيوش العربية في كل اتجاه؛ مما أثار قلقه وبدَّد مرحلة السيطرة الأولى بمزيدٍ من الحصار عليه في المدينة المنورة.
بدأت تضيق الدائرة على الحامية العثمانية، وصارت تلحق بها الخسائر في مواقع عدة، حتى وجدت الحامية نفسها محاطةً في الحدود القريبة من المدينة المنورة؛ ذلك الأمر شجَّع العرب على الطلب من فخري باشا إعلان استسلامه، خاصةً بعد أن قُطعت مواصلاته كافة مع مركز قيادته في الشام، وفقدت السيطرة على الطريق من المدينة إلى الشام. غير أن فخري لم يستجب ورفض الاستسلام على الرغم من معرفته التامة بأنه لن ينجح في مقاومة القوات العربية التي تحيطه من كل اتجاه، مهما حاول استنهاض قوته وقوة حاميته، واستمرت حالة الترديّ له ولقواته وتراجعها، حتى علم بعقد الدولة العثمانية هدنة (مندروس) في أكتوبر (1918م)، وبموجبها تعهدت الدولة العثمانية بالانسحاب من المناطق المُتفق عليها بتسويات الحرب، ومنها الحجاز، حيث أرسل الصدر الأعظم إلى فخري باشا رسالةً قال فيها: “بعدما بذلنا جهودًا جبارة، وقمنا بتضحياتٍ عظيمة أكثر من أربع سنوات في سبيل الدين والشرف، فتعرضت الدول التي نحارب فيها وبجانبها إلى الهزيمة وأصابها من ذلك ضعف شديد، مما أجبر دولتنا العثمانية على عقد الهدنة مع الدول المُتحالفة. وفي إحدى مواد هذه الهدنة شرط أن تستسلم قواتنا الموجودة في الحجاز وعسير واليمن إلى أقرب قائد للحلفاء. إنكم أنتم أصدقائي الجنود الذين أديتم واجب الشرف والكرامة منذ سنين فقبولكم هذا الحكم الأليم القاسي سينبع من شعور حب الوطن؛ لأن ذلك سيُنقذ الوطن الأم من فناءٍ محقق، ولا شك أن عملكم هذا مُقدَّر أعظم تقدير”.
وبهذه الرسالة كان إعلان الحكومة العثمانية تخليها عن المدينة المنورة وحاميتها فيها، وطلب واضح وصريح من الصدر الأعظم إلى فخري باشا بالاستسلام والتسليم، غير أن فخري لم يستجب للأوامر، وأصرَّ على المقاومة وعدم الاستسلام، حتى أنه حاول إخفاء أمر الاستسلام عن حاميته التي عرف ضباطها لاحقًا بالأمر، فأصبح وضع فخري حرجًا أمام القادة المرافقين له.
قتل الأمهات قبل أطفالهن
(1) أنتوني ناتنغ ولويل توماس، لورنس لغز الجزيرة العربية (بيروت: مؤسسة المعارف، 1969).
(2) سعيد طوله، سفربرلك وجلاء أهل المدينة المنورة إبان الحرب العالمية الأولى 1334-1337هـ، ط2 (المدينة المنورة: النادي الأدبي الثقافي بالمدينة المنورة، د.ت).
(3) الكولونيل لورنس، الثورة العربية، ترجمة: شعبان بركات، ط2 (عمَّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 1990)، 16-25؛ آل ثابتة، “حصار المدينة المنورة”.
(4) محمد زيدان، ذكريات العهود الثلاثة: العثماني، الشريفي، السعودي (بيروت: جداول، 2011).
(5) سليمان موسى، الثورة العربية الكبرى – الحرب في الحجاز 1916-1918م (عمَّان: د.ن، 1989).
(6) فريدون قاندمير، الدفاع عن المدينة (آخر الأتراك تحت ظلال نبينا صلى الله عليه وسلم)، ترجمة: مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة (المدينة المنورة: د.ن، د.ت).