أول من قسّم بلادهم وشردهم

سليمان القانوني افتتح "حمام الدم" الكردي

التاريخ لا يرحم، وعلى القادة والزعماء معرفة أن خطأ واحدًا قد يورد أمةً من الأمم إلى المهالك، بل يقضي عليها في بعض الأحيان، هذا ما ينطبق على الأكراد وعلاقتهم بالدولة العثمانية، التي بدأت بقلق متبادل بين الطرفين أعقبه تحالف سرعان ما انتهى وتحول إلى عداء تسبب في مجازر دموية تعرض لها الأكراد حتى اليوم.

تعود تفاصيل القصة إلى عام (1514م)، حين وافق إدريس البدليسي زعيم الأكراد في ذلك الوقت على عقد صفقة سياسية مع سليم الأول (1512-1520)، وتمثلت الصفقة في مساعدة الأكراد لسليم في الانتصار على الدولة الصفوية مقابل أن يعترف السلطان العثماني بالاستقلال الذاتي للأكراد ومنحهم حرية تكوين جيش خاص بهم وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية، وبالفعل عُقدت الصفقة وانتصر سليم الأول على الصفويين في جالديران (1514م)، وُسمي اتفاق الأكراد مع الترك بتحالف جالديران.

لكن لم يدم الحال طويلاً، فبمجرد وفاة سليم الأول (1520م) انقلب كل شيء، ورغم أن التحالفات التي تعقدها الدول لا تتوقف على حياة الأشخاص أو وفاتهم لكن هذا لا يسري على سلاطين الترك الذين كلما جاء واحد منهم نقض عهد سابقه، وهكذا حتى عُرفوا بأنهم دولة نقض العهود، وكانت تلك خطيئة الأكراد الأولى، وإن أدركوها بعد فوات الأوان.

لم يكن سليمان القانوني (1520-1566) الذي تولى الحُكم خلفًا لأبيه سليم الأول بالرجل الذي يحفظ العهود أو التحالفات، فبمجرد أن تولى الحكم تنصَّل من أي اتفاق مع الأكراد، إذ فرض بعض العقوبات التي طالت أمراء الكرد، وذلك يعد خرقًا لتحالف جالديران الذي نص على عدم تدخل الدولة العثمانية في أي شأن كردي.

لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، فالدولة الصفوية سُرعان ما استعادت قوتها وجهزّت جيوشها للثأر من سلاطين الترك، فبدأت في شن حملات عسكرية ضد بلاد العثمانيين، فما كان من الدولة العثمانية إلا الرد بحملات عسكرية مضادة، وفي وسط ذلك كله تحولت كردستان إلى ساحة التقاء الجيوش الصفوية والعثمانية، وعلى مدار أكثر من ثلاثة عقود، تعرضت كردستان لدمار كبير أدى إلى خراب البلاد، أفقر الأهالي وتسبب في هجرة الكثيرين منهم للنجاة بحياتهم.

ويرى مؤرخون أن ما أقدم عليه العثماني سليمان القانوني يأتي من منطلق براجماتي بحت، فالسلطان سليم الأول اضطر إلى التوافق مع الأكراد في وقت كان الأعداء يحيطون به من كل جانب فاستطاع بتحالف جالديران أن يتخلص من عدو شرس متمثل في الدولة الصفوية، لكن حينما تولى سليمان القانوني الحكم كانت الأخطار المحيطة بالدولة العثمانية تراجعت قليلًا بعد سيطرة العثمانيين على مصر والقضاء على المماليك المنافس الأقوى للعثمانيين في العالم العربي.

ومن ثم شعر القانوني أنه ليس بحاجة لتحالف يتنازل فيه للأكراد عن أراضي كردستان، وكما يوضح مؤرخون، فإن هذا خطأ الأكراد منذ البداية، فهم لم يدُركوا أن تحالفهم مع سليم الأول كان نتيجة ظروف تاريخية ستتغير  بالتأكيد وسينقض العثمانيون عهودهم كالمعتاد، خاصة أن شروط الأكراد لم تكن باليسيرة أو الممكن قبولها من جِهة بني عثمان.

لكن فات الأوان، فالعثماني سليمان القانوني تعامل منذ اللحظة الأولى من حكمه مع كردستان كأنها تخضع لسلطته الفعلية، غير مكترث بأي اتفاقات، وتأكد ذلك بأفعاله، فزاد من تدخله في الشؤون الداخلية للكرد حتى وصل الأمر إلى سجن بعض الأمراء وقتل بعضهم داخل كردستان ليكون أول من افتتح مسيرة الدم من جانب سلاطين الترك، وهي مسيرة تُعد الأطول في التاريخ والأكثر بشاعة من ناحية عدد الضحايا.

وكما كان القانوني أول من قتل وحبس الأكراد من جانب سلاطين العثمايين، كان هو أيضًا أول من قسم أراضيهم، ففي عام (1555) وُقِّعت معاهدة أماسيا، أول اتفاقية رسمية بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية بعد سنوات من القتال المرير، وفي هذه الاتفاقية عُيِّنت الحدود وقُسِّمت كردستان فباتت هناك مناطق تخضع للسيطرة العثمانية ومناطق أخرى للسيطرة الصفوية.

قدم "القانوني" جزءًا من كردستان لأعدائها الصفويين في معاهدة أماسيا.

وهكذا في صفقة سياسية، وبسبب ثقتهم في العثمانيين خسر الأكراد كل شيء على يد سليمان القانوني، ففقدوا استقلال أراضيهم بعد سنوات طويلة من الكفاح وتضحية الأنفس من أجل تحقيق هذا الحلم، بجانب تحويل كردستان إلى بلد تحت الأنقاض نتيجة الحروب بين الصفويين والعثمانيين، وأخيرًا وجدوا أنفسهم بين نارين، فالدولة الصفوية لن ترحمهم بتحالفهم السابق مع العثمانيين ضدهم، وسليمان القانوني لن يعترف بهم تحت أي ظرف، ومن ثم عليهم محاربة الدولتين.

وبحسب مؤرخين فإنه منذ عصر سليمان القانوني لم يحظ الأكراد بأي حقوق أو اتفاق آخر على غرار ما حدث مع سليم الأول، بل لقد تحول سلاطين الترك إلى ألد أعداء الأكراد فلم يتوقفوا لحظة عن قتالهم وتشريدهم في البلاد.

أصبحت كردستان ميدانًا للمعارك العثمانية الصفوية ردحًا من الزمن.

  1. أحمد وصفي زكريا، عشائر الشام، ط2 (دمشق: دار الفكر، 1983).
  2. س. موستراس، المعجم الجغرافي للإمبراطورية العثمانية، ترجمة: عصام الشحادات (بيروت: دار الحزم، 2002).
  3. محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العلية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1983).
  4. محمد مختار باشا، التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية (القاهرة: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980).