الطب الشرعي أكد موته مسمومًا

الملف الكُردي تسبب في موت "أوزال" المفاجئ سنة (1993م)

يعيش في تركيا أكثر من 20 مليون كردي حاليًّا، ويشكلون نسبة مئوية تقدر بما يزيد عن 20% من السكان. وبعد الانقلاب العسكري التركي الذي نفذته المؤسسة العسكرية التركية بزعامة الجنرال “كنعان إيفرين” (1980) عانت القومية الكردية أشكالاً من التمييز العنصري والقمع القومي المستمر، على غرار حظر الحكومة التركية التحدث باللغة الكردية وتغريم من يتحدث بها في الحياة العامة والخاصة، بل شددت على منع استخدام مصطلح “كرد” أو “كردستان”، بل منعتهم من استخدام الأسماء ذات الأصول الكردية، كذلك الغناء باللغة الكردية. واستصدرت الحكومة التركية قانونًا دستوريًّا يقنن ذلك الحظر. ولا شك أن هذا نتاج الفكر القومي للعنصرية الطورانية التي أسسها ورسخها العثمانيون وبعدهم مصطفى كمال أتاتورك وخليفته عصمت إينونو في تركيا الحديثة، التي حظرت على جميع الأقليات والقوميات غير التركية التمتع بالحقوق الثقافية والاجتماعية والسياسية منها بصفة خاصة.

كانت هناك حملات عنيفة من الحكومة التركية استهدفت الأكراد الذين طالبوا بحقوقهم، والحصيلة كانت مجازر عديدة، ومورست سياسات التتريك الصارمة، التي تناغمت مع التوجهات القمعية التي اتّبعها أتاتورك بهدف جعل تركيا دولة أوروبية غربية الهوى والتوجهات، من خلال تحطيم هويتها الشرقية.

استمرّ الصراع بين الأكراد والحكومة التركية بين صعود وركود من حين إلى آخر، وكان الحل الأمني القمعي هو المعتمد بصورة خاصة من مختلف الحكومات التركية التي كانت تطلق يد الجيش التركي بين الأكراد، ليعلن أحكام الطوارئ في المناطق الكردية، ويقيم الإدارات العسكرية والمحاكم العرفية فيها.

أدت الحملات الإعلامية التي شنتها الصحافة الغربية ضد الحكم العسكري في تركيا وانتهاكه الصارخ للحياة العامة، إضافة إلى مطالبة الجماهير التركية بالعودة إلى الحياة المدنية، إلى قيام الرئيس التركي الجنرال “كنعان إيفرين” بالتصريح سنة (1982م) بأن مجلس الأمن القومي قد وضع جدولاً زمنيًا للعودة إلى الحياة الديمقراطية، من خلال إعداد مسودة دستور جديد للبلاد، وإجراء الاستفتاء عليه خلال فصل الخريف، ومن ثم إعداد قانون جديد للأحزاب ينظم من خلاله الحياة السياسية والبرلمانية في البلاد. وبعد إجراء الانتخابات البرلمانية والعودة إلى الحكم المدني فاز فيها ثلاثة أحزاب سياسية، اثنان منها محسوبان على العسكر، وإن كانت النتيجة لم ترض العسكريين الأتراك حيث فاز بأصوات الأغلبية حزب الوطن الأم، الذي جاء بـ ” تورغوت أوزال” (1983-1993) ليكون رئيسا للحكومة، وليبدأ في العملية الديمقراطية البطيئة أو كما وصفها الكاتب الهولندي “إريك زوركر” في كتابه “تاريخ تركيا الحديث”  “توسيع الطريق”، وحاول خلال فترة توليه الحكومة التعامل مع المسألة الكردية بعقلية جديدة مستعدّة للتفاهم والحوار، والانفتاح على أكراد تركيا ومناقشة موضوعهم من الداخل، ومحاولة فهم الأسباب، والعمل من أجل الوصول إلى حلول واقعية ممكنة، وذلك كله بعيدًا عن الأحكام المسبقة، وحاول أيضًا التقليل من شأن المسألة الكردية وتجاوزًا للمحظورات التي كانت السياسات الرسمية قد فرضتها على هذا الموضوع من خلال إعطائهم بعض الحقوق الثقافية ورفعه الحظر جزئيًّا عن اللغة الكردية وسمح لهم بإصدار مطبوعات باللغة الكردية. ومناقشة إقامة فيدرالية بين الأكراد والأتراك لحل المسألة الكردية، وكان قاب قوسين من توقيع اتفاق سلام معهم، إلا أن ذلك الأمر لقي مواجهة بمعارضة شديدة رسمية وغير رسمية.

الجمهوريون الأتراك حظروا على الأكراد التحدث بلغتهم وغرَّموا من يتحدث بها.

وأدت المؤسسة العسكرية التركية إلى حل المسألة الكردية بالتفاهم والحوار.

ولكن الموت المفاجئ لأوزال، أوقف ذلك المشروع برمته، ويرى بعض المحللين أن السبب في وفاته إصابته بسكتة قلبية ولقد ثبت مؤخرًا بعد استخراج جثته وإجراء فحوصات عليها أنه مات مسمومًا، ويبدو أن المؤسسة العسكرية التركية أدركت خطورة ذلك على الإرث الجمهوري في تركيا أو ما يمكن تسميتها بالدولة الكمالية العميقة.

تلك العوامل والأساليب العنصرية والتضييق مجتمعة ضد القومية الكردية أسهمت بدورها في عودة النشاط العسكري المنظم إلى الأكراد، في مواجهة الطغيان العنصري التركي. وهو ما أدى إلى اندلاع حرب ضروس بين الحكومة التركية والفصائل الكردية المسلحة وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني ““PKK، الذي ظل يواجه الحكومات التركية المتعاقبة. وكان يتزعم هذا الحزب عبدالله أوجلان، ولقد وقعت الكثير من المعارك ما بين أعضاء هذا الحزب والقوات التركية، وأدى إلى خروج مجموعات من أعضاء هذا الحزب إلى منطقة جبال قنديل الوعرة بمنطقة كردستان العراق، وإقامة قواعد عسكرية لهم، وكانت القوات التركية كثيرًا ما تجتاز الحدود العراقية لتشن غاراتها على قواعد هذا الحزب. واستمرت المعارك والاشتباكات بين الحين والآخر ما بين الحزب المذكور والقوات التركية، حتى أُلقي القبض على زعيم الحزب أوجلان في فبراير (1999م) بمساعدة الموساد الإسرائيلي.

 

  1. إبراهيم الداقوقي، أكراد تركيا، ط2 (إربيل: منشورات ئاراس، 2008).

 

  1. إريك زوركر، تاريخ تركيا الحديث، ترجمة: عبداللطيف الحارس (بيروت: المدار الإسلامي، 2009).

 

  1. كوثر عباس الربيعي، “تركيا والمسألة الكردية التاريخ والجغرافية والمستقبل”، بغداد، الجامعة المستنصرية، المجلة السياسية والدولية، العدد 41-42، السنة 2019.