ولاية الفقيه

محاولة لسلخ شيعة العرب من هُوِيَّتهم وتحويلهم إلى هجين تابع للثقافة الفارسية القديمة

المتخصص والراصد لتاريخ الشرق الأوسط يعي حقيقة النزعة العدائية التي تسيطر على القوى السياسية في الهضبة الإيرانية تجاه شرق المتوسط والجزيرة العربية. وتزايدت نبرة العداء بعد ما سَمَّوه بالثورة الإسلامية في إيران سنة (1979)، ووصول الخميني إلى القيادة السياسية، بعد فرض مبدأ ولاية الفقيه، ثم قام هذا النظام السياسي الآيديولوجي بتغطية أطماعه السياسية تحت شعارٍ يتمثل في “تصدير الثورة الإسلامية”.

غير أن الحرب الإيرانية العراقية التي اندلعت عام (1980)، أثبتت صعوبة “تصدير الثورة الإسلامية”، لذلك قامت إيران بتعديل استراتيجيتها. حيث جاء في تصريح رئيس وزراء إيران مير حسن موسوي، التحول الكبير في أساليب تصدير الثورة الإسلامية؛ إذ أعلن في 30 أكتوبر (1984) “إننا لا نريد تصدير ثورة مسلحة لأي بلد، هذه كذبة كبرى، هدفنا هو نشر الثورة الإسلامية من خلال الإقناع ووسائل الصدق والشجاعة، وهذه قيم إسلامية”، وكان هذا التصريح بداية لسياسة جديدة لإيران الخمينية بالتسلل داخل المنطقة العربية، من خلال دعم الأقليات التابعة لها، وإثارة النعرات الطائفية، ورفع شعارات إسلامية بقصد زيادة اتساع السيطرة السياسية لإيران بنشر الفوضى.

يرى الباحث اللبناني جمال واكيم أن الهدف من السياسة الإيرانية الجديدة كان براجماتيًّا بحتًا؛ لخدمة أهداف سياسية، أكثر منها مذهبية، إذ يقول: “تمكنت إيران من تعزيز نفوذها في العراق، وأحدثت اختراقات في جبهة البحر المتوسط، عبر علاقاتها مع سوريا، وكانت إيران تطل على شرق المتوسط، وعبر علاقاتها مع حزب الله في لبنان، كانت إيران تهدد الأمن القومي الإسرائيلي، وعبر علاقاتها مع حماس في غزة كانت إيران تطل على سيناء وقناة السويس والأمن القومي المصري، وعبر علاقاتها مع حوثيِّي اليمن، كانت إيران تطل على باب المندب، بوابة البحر الأحمر إلى المحيط الهندي”.

بدأت السياسة الخمينية هذا الاتجاه مبكرًا، لا سيما في العراق، وربما يعود ذلك إلى القرب الجغرافي، والعلاقات التاريخية، واستغلال الطائفية بفرض تبعية عمياء لإيران. لذلك عملت إيران على إنشاء حزب الدعوة العراقي، على غرار الدعوة الإيراني، وقامت بدعم هذا الحزب ماليًّا وعسكريًّا. وهو الحزب الذي نفذ الأهداف الإيرانية التي كان من أبرزها محاولة اغتيال الرئيس العراقي صدام حسين وعدد من وزرائه، كما فجر الحزب القنابل والعبوات الناسفة في عدة وزارات عراقية، بل حتى في جامعة المستنصرية الشهيرة، وأدى ذلك إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى. وردًا على ذلك قامت حكومة صدام حسين بإلقاء القبض على زعيم حزب الدعوة محمد باقر الصدر، وتم توجيه تهمة الخيانة العظمى له، وبناءٍ عليه صدر الحكم بإعدامه.

ويأتي الاختراق الثاني الكبير في لبنان؛ حيث استغلت إيران وجود طائفة كبيرة تابعة لها في الجنوب، وبدأت إيران تقدم المساعدات المالية لتابعيها في لبنان، وهي المساعدات التي قدرها البعض بحوالي مائة مليون دولار سنويًا. كما ساندت إيران تأسيس حركة أمل اللبنانية، وكلمة أمل هي اختصار لـ”أفواج المقاومة اللبنانية”. ويؤكد الباحث الأردني عليّ محافظة على تبعية حركة أمل لإيران قائلاً: “تدخلت إيران في الوضع اللبناني، وعملت على سلخ الشيعة من المجتمع اللبناني وإلحاقهم بها، وفي المؤتمر الرابع لحركة أمل في مارس 1982، أعلنت الحركة أنها جزء لا يتجزأ من الثورة الإسلامية”.

لكن الاختراق الإيراني الأكبر في لبنان كان تأسيس حزب الله عام (1989)، على غرار حزب الله الذي تشكل في إيران، قبل قيام الحزب الجمهوري الإسلامي. ويرتبط حزب الله اللبناني بمرشد الثورة الإيرانية، ويُعَد الأمين العام للحزب بمثابة الوكيل الشرعي للوليّ الفقيه، مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران.

ويأتي الأخطر في جنوب الجزيرة العربية في اليمن؛ إذ استطاعت إيران تكرار تجربتها في العراق ولبنان بالسيطرة على شيعة اليمن، من خلال جماعة أنصار الحوثي. وكان هذا الاختراق غريبًا في حقيقة الأمر نظرًا للاختلاف المذهبي بين شيعة اليمن وشيعة إيران؛ إذ يسود المذهب الزيدي بين شيعة اليمن، بينما مذهب الإثنا عشرية هو المذهب الرسمي في إيران. لكن إيران نجحت في استمالة الحوثي إليها، وأخذ الأخير يدعو إلى التقريب بين المذهبين “الزيدي والإثنا عشرية”. وفي الواقع لم يكن ذلك الأمر من أجل التقريب بين المذاهب، ولكن توطئة للتوغل الإيراني في اليمن.

اتفقت الاختراقات الإيرانية للمنطقة العربية على ترويج الشعارات المستهلكة، والدعم المادي للميليشيات الإرهابية.

وفي تقريرٍ نشرته المجلة الأمريكية “نيويورك تايمز” رصدت فيه كيف وظفت إيران الحوثي وجماعته مذهبيًّا وعسكريًّا لخدمة أغراضها السياسة. إذ يصف التقرير جماعة الحوثي قبل الدعم الإيراني بأنهم “مجموعة من المتمردين الأشرار، مقاتلون قبليون غير محنكين، يركضون مرتدين الصنادل، ومسلحين ببنادق رخيصة”.

أما بعد الدعم الإيراني المباشر أُدمج الحوثيون في شبكة الميليشيات التابعة لها في المنطقة العربية. ويرى التقرير أن هذا الدعم غرضه الأساسي: “تهديد السعودية خصمها التقليدي الإقليمي”.

هكذا استطاعت إيران الخمينية، استغلال بعض شيعة العرب بسلخهم من قوميتهم، والتلويح بالمسألة المذهبية، من أجل أطماعها السياسية في المنطقة العربية. ولعل ما يقوم به الإيرانيون اليوم بالتعامل مع أولئك العرب الذين انقادوا لهم خير دليل على أن الفرس ما أن يضمنوا تغلغلهم وسيطرتهم؛ حتى تظهر لديهم النعرة والفوقية العرقية ويتلاشى معها تلك التقاطعات المذهبية التي كانوا يتغنون بها قبل ذلك.

  1. عليّ محافظة: إيران بين القومية الفارسية والثورة الإسلامية (عمان: جامعة الأردن، 2013).
  2. جمال واكيم، أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط (بيروت: د.ن، 2016).
  3. نيويورك تايمز، تقرير عن الحوثيين، 19 إبريل (2022). منشور مترجمٌ بموقع yemenmonitor.com.