كارثة تفجير
القبر الشريف
فقد فخري باشا سيطرته على جنوده نتيجة تزايد أثر الحصار، وحدوث المجاعة وانتشار الأمراض، كذلك قناعة الجُند بأن قائدهم يقودهم إلى الموت، بعد انقطاع المواصلات مع مركز القيادة، خاصةً أن الخسائر التي كانت تتوالى على الجيش العثماني في الشام بثت روح الهزيمة بقوة بين جنده، لذا لجأ بعض الضباط العرب في حاميته إلى تسليم أنفسهم مع وحداتهم للقوات العربية؛ وذلك جعله يتراجع كثيرًا وينحصر في حدود المدينة، وأصبحت هنالك ظاهرة فرار الجُند كما يصف أحد الأتراك المرافقين للحملة كاشف كجمان، إذ بدأت الظاهرة بالجند العرب وانتقلت إلى الأتراك، الذين وصف فرارهم كيجمان بالمُخجل.
يصف التركي قاندمير بأنه خلال ثلاثة أشهر فقط؛ فرَّ ما يُقارب 164 جنديًّا من حامية فخري باشا في المدينة المنورة؛ وذلك أضعف الروح المعنوية لدى أفراد الحامية العثمانية، خاصةً أولئك الذين يرون بأن سياسة فخري خاطئة، وبأنه قام بعصيان أوامر حكومته بتسليم المدينة، وهذا ما زاد من حالات الفرار على فترات مُتقطِّعة.
وخلال إبريل ( 1918 م)، قام فخري باشا بمحاكمة عُرفيَّة لمجموعةٍ من جنود وضباط حاميته، وساقهم إلى ساحة الإعدام، وتم رميهم بالرصاص بتهمة إثارة حاميته وتحريضها على الاستسلام والفرار.
وبعد أشهُرٍ من هذا الإعدام وزيادة التوتر أمرت الحكومة العثمانية فخري بالتسليم نتيجةً للهدنة التي وقعت مع قوات التحالف أكتوبر ( 1918 م)، غير أن طبيعة فخري لم تقبل هذا الاستسلام وبدأ يماطل قيادته في إسطنبول، على الرغم مما وصل إليه من حالٍ ميؤوس منها تهدد قوات حاميته بمذبحة وشيكة إذا لم يُسلِّم، لذا زادت حالة الفرار بين الضباط وجندهم.
زادت عملية رمي المنشورات على أفراد الحامية من الهزيمة النفسية بينهم؛ التي كانت تأتيهم من قبل القوات العربية المُحاصرة، والتي هددتهم بأن إصرارهم على البقاء في المدينة سيجلب لهم النكبات والمصائب، إضافةً إلى بثِّ الأخبار عن انتصارات الحلفاء، التي كانت تزيد الحال النفسية سوءًا.
ضاقت الدائرة على فخري، إذ أصبح ينافح القوات العربية المُحاصِرة له، والهزيمة النفسية بين أفراد حاميته، وضغوطات حكومته عليه بضرورة التسليم، خاصًة بعد أن أُرسل أحد ضباط السلك الديبلوماسي العثماني كي يقنعه بأوامر حكومته، وتحت وطأة هذا الوضع انقسمت الحامية إلى من كانوا يؤيدون أوامر الحكومة، وقلةٍ ممن وقفوا مع فخري خوفًا منه، حتى أصبح هنالك عصيان في الحامية وبدا الانقسام واضحًا؛ فاضطر فخري إلى أن يتحصن بالحرم النبوي وهو في حال عصيبة حادَّة، إذ يذكر قاندمير أنه جلس فوق صنادق من الذخائر والمتفجرات التي كانت في فناء الحرم، وهدَّد بإشعالها إذ تم الهجوم عليه من أفراد حاميته. وبذلك فإن فخري نقل مقر قيادته إلى داخل الحرم النبوي مع بعض أركان حربه المؤيدين له، وعمد إلى تعبئته بشحنات من الأسلحة والقنابل اليدوية والديناميت المتفجر مع كميات كبيرة من الذخيرة، إضافةً إلى أنه عبَّأ المخازن في الحرم بالأغذية المُعلَّبَة والخبز المجفف، لأنه عقد العزم على المقاومة، وأعطى أوامره إلى ضُباطه الذين معه بأن يكونوا متسلحين، ثم أغلق أبواب الحرم بعد أن زرع الطُّرُق إليه بالألغام المتفجرة، كما هدَّد بأنه طوَّق الحٌجرة النبوية بالمتفجرات، وبأنه لن يتردد في تفجيرها إذا ما تم الهجوم عليه.
تجرؤ فخري بتهديد الحجرة النبوية ثابت في ما قاله قاندمير المحسوب على الحامية العثمانية والمتعاطف مع فخري باشا، فإضافةً إلى التأكيدات التركية الشاهدة على الأحداث، والمعاصرين من المؤرخين؛ وصف حسن الصيرفي في مذكرات مخطوطة له، بأنه مدَّ يده لقنبلة يدوية و هدَّد الضباط المحيطين به إذا ما اقتربوا منه سيحرق المدينة كلها.
الأتراك المرافقين لفخري اعترفوا بتفاصيل مخطط التفجير
اقترف فخري أكبر الجرائم بمجرد التفكير بتفجير الحرم، وليس بقيامه بتنفيذ ما هدَّد به، لأنه لم يرعَ حُرمة الحرم، ولا جوار الرسول ﷺ، ولو أنه نفذ ما هدد لاهتز العالم الإسلامي كله، و لا غرابة أن يتجرأ على ذلك وهو من كان يسب العرب أمام قبر رسول الله ﷺ؛ فذلك يثبت أنه مجرمٌ من كل اتجاه وبكل إجراءٍ قام به في المدينة المنورة.
قاوم فخري النوم لمدة 24 ساعة متواصلة حتى لا يُقبض عليه، ولكن بعد أن غلبه النوم، دخل عليه ضباطه وأخرجوه من الحرم قبل أن يقوم بتنفيذ جريمته الكبرى، وسُلِّم للقوات العربية بعد أن تُعهِّد له بأن لا يُمس ورُحِّل عن الجزيرة، على الرغم من أنه كان يفترض أن يُحاكم أمام الملأ لجرائمه التي اقترفها بحق أهالي المدينة، والأسر التي شرَّدها وشتَّتها، والأرواح التي أزهقها بإعداماته في ساحة المدينة المنورة، وجريمته العظمى في انتهاك حُرمة المسجد النبوي وجعله ثكنة عسكريةً له، يهدِّد بتفجيره بكل جُرمٍ وقسوة، من دون أن يفكر فيما سيقترفه.
1) عماد يوسف، الحجاز في العهد العثماني 1876-1918م (بيروت، دار الوراق، 2011).
2) فريدون قاندمير، الدفاع عن المدينة (آخر الأتراك تحت ظلال نبينا صلى الله عليه وسلم)، ترجمة: مركز بحول ودراسات المدينة المنورة (المدينة المنورة: د.ن، د.ت).
3) محمد الحسني، تاريخ الثورة العربية الكبرى (بيروت: الدار العربية للموسوعات، د.ت).
4) عزيز ضياء، حياتي مع الجوع والحب والحرب، ط 2 (بيروت: دار التنوير،2012).
5) Naci Kiciman, Medine mudfaasi yahud hicoz bizden nasil (Istanbul: Sebil Yahyinevi، 1971).