يهوديات الحرملك

تميّز سوق العبيد في إسطنبول ببيع الذكور والإناث فيه، ويُعاملون كالدواب، وفي كل يوم أربعاء ينعقد مزاد علني للبيع، في سوق يسمى سوق الأسرى (Esir Pazan)، ويقع بالقرب من القصر السلطاني، وقد كان ذلك السوق بمنزلة مركز تجاري لبيع الأسرى، وهو الموقع نفسه الذي كان سوقًا لنفس الغرض في زمن البيزنطيين.

يدير السوق الأمير، وتعني كلمة الأمير هنا جابي الضرائب، ومهمته جمعها من البائعين والمشترين على حدّ سواء، ومن ثم تعود تلك المنافع إلى الباب العالي.

تجارة البشر:

من جهة أخرى تلك الجموع من الفتيات، اللاتي يتمتعن بمواصفات خاصة، يُجلبن للحرملك للعمل على تربيتهن تربية خاصة مميزة تليق بالمقام السلطاني، ومن أخطر ما يدور داخل دائرة الحريم – الحرملك -، تلك الفتيات اللاتي يُسند إليهن مهمة التربية والتعليم، فالكثير ممن كتبوا في هذا السياق، يكتبون عن التعليم الديني، وتعليم اللغات كاللغة العربية والتركية والفارسية. وإن كان الأمر خاصًا بحريم السلطان، فما السبب في أن تتعلم الجواري اللغة العربية مثلاً، وتعاملها داخل الحرملك أو تعاملها مع السلطان إن وقع اختياره عليها لا يحتاج إلى اللغة العربية، غير ذلك ليس من المنطق أن يكون تعليمهن ضروريًّا بذلك المنحى العجيب.

لكن في المقابل يتغافل الكثير من المؤرخين الكتابة عن تواجد اليهوديات باعتبارهن عنصرًا نسائيًّا ضمن المنظومة، وما مدى خطورة تواجدهن أو ما فائدته؟ وما العقاب الذي ينتظرنه إن صدر تجاههن غضب الإرادة السلطانية؟ أو مِن أُمِّ السلطان وهي المسؤولة العُليا داخل الحرملك، ومن بعدها قريبات السلطان كالأزواج والأخوات وغيرهن.

كان يُسمح لليهوديات بأمر السلطان الدخول إلى الحرملك، للقيام بتعليم النساء عمل ما، أو صناعة الدواء !!!، وبدورهن – أي اليهوديات – يقمن بتقديم الهدايا لحراس أبواب الحرملك – الأغوات البيض – لكسب الود، وذلك لتسهيل حركتهن دخولاً وخروجًا بعيدًا عن أعين المراقبة والتتبع ومن ثم القيام بإدخال واخراج ما يرغبن فيه، لذلك فإن كل من خَدَمن من اليهوديات يغتنين بسبب ما يقمن بترويجه داخل الحرملك من بضائع تُشترى بثمن بخس، وتُعرض على نساء الحرملك على أنها من الغالي والنفيس.

وفي مقابل ذلك يُنقل إلى الخارج المجوهرات الثمينة بطرق خفية سرية لبيعها والتكسب من ورائها، وهذه أعمال حرة يمارسنها في أثناء تواجدهن في منظومة نظام حريم السلطان، ولكن عندما يُكتَشَفُ أمر إحداهن بأنها أصبحت من الأثرياء أو محتالة، يُبلغ عنها بعد تَعَقُّبها، أو إذا حدث خلاف بينها وبين جواري السلطان يُنزل بهن أشد أنواع العذاب بقسوة بالغة، ومن ذلك الضرب المبرح من الموكلين بمراقبتهن، وإذا لم يعترفن بجرمهن يُرسَلنَ إلى السراي القديم عاريات ويَبْقَين كذلك المدة التي ترتضيها الكخيا قادان – أي المربية وعادة هن الكبيرات في السن من الجواري – ويشتد العقاب إن أخذوا منها ما كانت تخبئه، وبعد ذلك توضع في كيس لإغراقها ليلاً لتُعلن الطاعة، وعدم العودة إلى ما كانت عليه من خيانة.

لكن هنا تساؤل مهم لسلوك غريب في عدم قتلهن والتخلص منهن، رغم أن عقاب القتل والتمثيل كان من أسهل أنواع العقوبات عند العثمانيين، هل كان ذلك لأنهن يهوديات ولا يمكن الاستغناء عن التعامل مع أمثالهن، وهناك من يتابع مصالحهن من خارج دائرة الحريم؟

العلاقات العثمانية مع اليهود لها طابع خاص، ولا مجال لذكرها هنا.

وإن كان من مهمات اليهوديات تعليم الجواري صُنعَ الدواء المفيد، لماذا لم يُكتب عن تلك المعلومة الطبية بإيضاح؟ ومن كان يعمل على جلب أنواع الأدوية والسموم القاتلة لداخل الحرملك؟ تلك التي استُخدمت للتخلص من إخوة السلاطين وأبناءهم، أو من الباشوات وغيرهم، فالتاريخ مليء بمثل تلك الأحداث، وقد يكون المصدر جهات أخرى كالجواري اللاتي تعلمن صنع الأدوية، تلك تساؤلات إجاباتها بين صفحات التاريخ…..

وإن كان لليهوديات دور في التربية والتعليم، فما النتائج المتوقعة، وما مدى مستوى التربية النوعية للفتيات كونهن جوارٍ، مع جلبهن من مناطق متعددة مأسورات وإماء وغير ذلك تحت وطأة ظروف قهرية، بأديان مختلفة، وبفكر تختص به كل منهن على حدة، يمارسن طقوسًا لتسخيرهن للسلطان ونظام الحرملك المعقد في آلياته، والغموض الذي يكتنفه يبقى واضحاً، فما السبب في تعقيد تلك الأنظمة، وما يلفها من سلوكيات تنتهك حق الإنسانية.

للرد على بعض التساؤلات السابقة نذكر قول موريس ليفي، عضو مجلس الجمعيات الوقفية وممثل المؤسسات الوقفية للأقليات الدينية في الجمهورية التركية قوله: “أدخل اليهود معهم العديد من المهن إلى الدولة العثمانية ولعبوا دورًا مهما في مجالي الدبلوماسية والطب واستفادوا من وجودهم في كنف الدولة العثمانية بشكل كبير جدًّا، مثلما استفادت من وجودهم”.

ويقول: “لدينا قاعدة قديمة تستند إلى الامتثال الصارم لقواعد البلد الذي نعيش فيه وقوانينه، لم تكن هناك أي انتفاضة أو ثورة في تاريخ الجالية اليهودية ضد الدولة العثمانية، والجالية اليهودية هي أقلية يرجع تاريخها لأكثر من 3 آلاف عام، هذا الوضع أكسبهم الدماثة والدبلوماسية في التعامل مع الآخرين”.

بذلك تتضح الصورة في جزء من العلاقات العثمانية والتركية مع اليهود.