الأكراد والأتراك:

تاريخ من الصراع كُتبت فصوله بالدماء

تشكل دراسة تاريخ العلاقة بين الأكراد والسلاطين الأتراك مدخلاً مهمًّا لفهم محددات وتداعيات هذا “الصراع الوجودي” الذي نتابعه بين الطرفين في ظل تمسك أنقرة بضرورة إخضاع الأكراد بمنطق الحديد والنار، واستماتة هؤلاء في المطالبة باستقلالهم عن تركيا وتحقيق حلم بناء الدولة الكردية بعدما فشلوا في محاولة إقناع الساسة الأتراك من أجل احتوائهم داخل بنية الدولة مع مراعاة خصوصيات العرق الكردي وهو ما كان تحقيقه ممكنًا من خلال منح الأكراد حكمًا ذاتيًّا موسع تحت السيادة التركية.

أمام هذا الواقع المتشنج، فنحتاج إلى محاولة البحث في الإرهاصات التاريخية لهذا الصراع قصد استكمال مربعات الصورة وفهم المقاربة التركية في تعامل السلاطين الترك مع حلفاء الأمس وأعداء اليوم، وكيف استطاع شعب بلا أرض أن يسلب شعبًا آخر أرضه وخيراته ويرث كيانه السياسي.

في هذا السياق، بدأت الآثار الأولى للعلاقات الكردية التركية مع مطلع القرن الحادي عشر حينما وجد الأكراد أنفسهم فجأة يتقاسمون الجغرافيا مع شعب جديد بلا أرض ولا تاريخ، يحاول أن يبحث عن رقعة جغرافية تعد استكمالا لبناء الدولة ولو بمفهومها البسيط. وحينما نجح العثمانيون فيما فشل فيه غيرهم، دخلوا في تحالفات براغماتية مع الأكراد انطلاقا من القرن السادس عشر حيث لعب الأكراد دورًا مهمًّا في بنية الدولة العثمانية وكانوا جزءًا من المعادلة السياسية، قبل أن تقوم تركيا برد الجميل للأكراد عبر استباحة دمائهم ورموزهم واتهامهم بأبشع الأوصاف جعلت منهم أهدافًا مستباحة من طرف قوات القمع التركية.

ويمكن القول بأن الأكراد ربما لم يكونوا على بَيِّنة ودراية واضحة بالبنية السلوكية لهؤلاء المستوطنين الجدد وإلا لما سمح الكرد بتنامي هذا التهديد خاصةً أن بدايات القرن الحادي عشر تزامنت مع حكم الدولة المروانية للمناطق الكردية، وخاصة في ديار بكر وميافارقين. وهنا نجد ابن الأزرق، مؤرخ الدولة المروانية، يرصد لنا المحاولات الأولى لغزو السلاجقة لعاصمة الدولة المروانية ميافارقين سنة 1042م بالقول “وكان هذا أول ظهور للترك بهذه الديار، ولم يكن الناس قد رأوا صورهم”. (تاريخ ميافارقين–ص 161).

ويبدو أن دخول الأسرة المروانية في تطاحنات على السلطة عجلت بوضع دولتهم تحت وصاية السلاجقة ابتداءً من سنة 1070م، قبل أن يقوم الغزاة بالانقلاب على وعودهم للأكراد وطردهم من ديارهم وتشريدهم نهائيًّا من منطقة ديار بكر سنة 1084م، ليتم بعدما تتبع العناصر المروانية والقضاء عليها وهو ما تأتى لهم مع تحييد آخر حكام الأسرة المروانية سنة 1096م.

من خلال هذا التأصيل التاريخي يتبين لنا أن إخضاع الشعب الكردي لحكم السلاطين الترك كان بطريقة احتيالية، والتفاف على الوعود التي قُدِّمت للأكراد لوضعهم تحت وصايا الأتراك، وهو الأسلوب الذي سيبقى ضمن المعطيات الثابتة في تعامل الساسة الأتراك مع القضية الكردية.

ولقد أدى هذا التعامل الخبيث إلى خلق ردة فعل عكسية لدى الشعب الكردي اضطرته إلى الدفاع عن حقوقه في ممارسة خصوصيته الثقافية والعرقية والدينية بجميع الوسائل المتاحة ولو تحت سيادة العرق التركي، ويبدو أن الساسة الأتراك، بدلاً أن يحاولوا احتواء المكون الكردي، لجأُوا إلى الأساليب الكلاسيكية لضرب وحدة الصف الكردي من خلال التكتيك الاستعماري “فَرِّق تسد” ولعبوا على وتر العشائر والقبائل الكردية التي ساهم الأتراك في تفريخها إلى أن وصلت إلى 379 قبيلة وعشيرة في بداية القرن العشرين. (كتاب “القبائل الكردية في الإمبراطورية العثمانية” ص 5/6)

ورغم سقوط الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، إلا أن مصطفى كمال أتاتورك حافظ على نفس العقيدة التركية في التعامل مع القضية الكردية وناور بشتى الطرق للالتفاف على حقوق الشعب الكردي الذي طالب فقط بتمتُّعه بالحكم الذاتي عن تركيا من خلال الملتمس الذي تقدمت به آنذاك “الهيئة الوزارية الكردية”، وهو ما يتقاطع مع بنود اتفاقية سيفر سنة 1920م التي نصت في ثلاثة بنود منها على أحقية الأكراد في إقامة دولة مستقلة، وهي البنود التي ناور أتاتورك لعدم تنفيذها قبل أن يعقد تحالفات براغماتية مع الغرب تم تتويجها في مؤتمر لوزان الذي اعتبره أتاتورك ضوءًا أخضر لقمع تجمعات الأكراد ومنع تداول لغتهم.

إن الإجراءات القمعية للساسة الأتراك، دفعت الشعب الكردي إلى تبني خيار المقاومة للدفاع عن حقه المشروع في العيش الكريم وهو ما تجسد عبر قيامه بمجموعة من الثورات أقلقت وأنهكت الحكام الأتراك ولعل أهمها:

ثورة الشيخ سعيد بيران

في أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى، نجح الأكراد بقيادة خالد جبري في تحرير أراضيهم من يد الميليشيات الأرمينية الموالية لروسيا القيصرية. هذه النجاحات النسبية دفعت خالد جبري إلى التخطيط للثورة على القوات التركية في ديار بكر، غير أن هذه المحاولة باءت بالفشل وانتهت بإعدامه هو ونائبه قبل انطلاق الثورة. وأمام ضرورة وجود زعيم يجتمع حوله الأكراد لمواصلة الثورة، سيتم انتخاب الشيخ سعيد بيران سنة 1925م قائدًا عامًّا للثورة خلفًا لخالد جبري.

ورغم أن ثورة الأكراد حققت بعض النجاحات التكتيكية التي أقلقت الأتراك، إلا أن ضعف التنسيق والتسرع في التحرك ضد القوات التركية عجل بفشل هذه الثورة وإلقاء القبض على زعيمها سعيد بيران وإعدامه يوم 30 يونيو 1925م ليبدأ مسلسل التنكيل بالأكراد وتدمير قراهم في مشهد مرعب استمر إلى سنة 1928م.   

ثورة آغري بقيادة الجنرال إحسان نوري باشا

دفعت الممارسات الإرهابية التي مارسها الأتراك في حق الشعب الكردي في العديد من رموزهم إلى التفكير في إعادة الكرة سيرًا على نهج الشيخ سعيد بيران ومن بينهم الجنرال إحسان نوري باشا الذي أسس سنة 1927م حزبًا قوميًّا اختار له اسم “خويبون” ويعني “الاستقلال” عن الدولة التركية وتأسيس وطن قومي للأكراد.

سيقع اختيار إحسان نوري باشا على جبال الآرارات في منطقة آغري لإطلاق شرارة الثورة الكردية، التي بدأت بمناوشات مع القوات التركية التي لم تكن تتوقع قيام انتفاضة جديدة بهذا الحجم وهذا التنظيم. ويبدو أن صعوبة الوصول إلى الثوار والحنكة العسكرية التي قاد بها إحسان نوري باشا القوات الكردية كلفت الأتراك خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، إذ تتحدث بعض المصادر عن مقتل آلاف الجنود الأتراك بسبب المقاومة الشرسة والعقيدة القتالية والروح المعنوية العالية للأكراد.

ورغم حالة الإنهاك التي أحدثها الأكراد ضد الأتراك إلا أن عزلتهم في جبال آرارات وضعف التموين والتطويق الذي قامت به القوات التركية، دفعت الجنرال إحسان نوري باشا إلى طلب اللجوء السياسي إلى إيران، في الوقت الذي استمرت فيه آلة القتل التركية في معاقبة كل من له صلة من قريب أو بعيد بثورة آغري.

ثورة درسيم: إبادة جماعية في حق الشعوب الأصلية

بالرغم من سقوط ما أطلق عليها بالخلافة الإسلامية في تركيا وأعقبها في الحكم نظامٌ علمانيٌّ يتقاطع “صراحةً” مع المنطلقات الدينية في التشريع والحكم، إلا أن عقيدة الاستعلاء التركي ظلت متجذرة و تكررت معها المحاولات لإبادة العرق الكردي عن طريق التكتيك القديم – الحديث الذي تبناه الأتراك من خلال العمل على تتريك المناطق التي تضم تكتُّلاً سكانيًّا عرقيًّا لا يتناغم مع العقيدة العنصرية للساسة الأتراك.

من هذا المنطلق، لجأ الأتراك إلى سن قوانين جديدة للتوطين تهدف إلى تهجير بعض الأعراق تهجيرا قسريًّا بغرض تحقيق ما ادَّعوا بأنه “التجانس الثقافي”، ومن بين هذه القوانين “قانون تونجلي” على اسم منطقة أطلق عليها حديثًا تونجلي تعرف تاريخيًّا باسم “درسيم” ذات أغلبية كردية مع بعض التجمعات العلوية. وأمام رفض الأكراد الخضوع لهذه الإجراءات المجرمة دينيًّا وقانونيًّا دخل الطرفان في مواجهات مسلحة غير متكافئة انتهت بخيانة الأتراك عهدَ الأمان الذي قدَّموه لقائد الثورة سيد رضا الذي قبل بدخول مفاوضات بحسن نية مع الأتراك ليقبضوا عليه ويعدموه مع 27 من مرافقيه العُزَّل.

وبينما تعترف تركيا أردوغان بأن القوات التركية قتلت 14 ألف كردي، فإن الوثائق التاريخية تتحدث عن مقتل أكثر من 70 ألف كردي بشكل وحشي ممنهج. وبالرغم من رفض المحاكم التركية الاعتراف بهذه الإبادة الجماعية ضد الأكراد إلا أن أردوغان قام باستغلال المجزرة سياسيًّا من خلال اتهام حزب الشعب الجمهوري المعارض بمسؤوليته عن الحادث باعتباره كان يقود الحكومة آنذاك.

حزب العمال الكردستاني: على نهج رفاق السلاح

إن مشاهد المواجهة اليومية بين الأكراد والسلطة المركزية التركية ما هي إلا إعادة كتابة لتاريخ المواجهات نفسه بين الطرفين. وهنا نسجل بأن القمع الممنهج تجاه الأكراد دفعهم، في كل مرة، إلى العودة إلى أسلوب المقاومة المسلحة ومقاومة العنجهية التركية.

في هذا الإطار، تأسس حزب العمال الكردستاني بتاريخ 27 نوفمبر 1978م بمرجعية قومية شيوعية للمطالبة بتأسيس كيان سياسي مستقل، ودخل في مواجهات عسكرية ضد تركيا ذهب ضحيتها الآلاف من الطرفين، كان للأكراد نصيب الأسد منها. وشكل اعتقال عبد الله أوجلان سنة 1999م ضربة قاصمة للأكراد الذي اضطروا إلى خفض سقف مطالبهم من الاستقلال إلى المطلب القديم الجديد المتمثل في الحكم الذاتي.

ورغم دخول الطرفين في مفاوضات سرية سنة 2009م أعقبه التفاوض المباشر مع زعيمهم عبد الله أوجلان في ديسمبر 2012م، إلا أن وعود أردوغان كانت دائمًا حبرًا على ورق، مع استمرار استهداف الناشطين الأكراد وقمع رموزهم السياسيين، وهو ما دفع الحزب إلى إعادة تنشيط عمله داخل المدن التركية حيث سُجِّلَت مواجهة قوية في الداخل التركي خاصة سنة 2016م.

وأمام تدهور الوضع العسكري في سوريا ولعب الأكراد دور محوري في القضاء على تنظيم داعش، تخوف الأتراك من تحول الشمال السوري إلى قاعدة خلفية للأكراد تنطلق منها العمليات العسكرية لتحرير المناطق الكردية. هذا الإكراه الاستراتيجي دفع الأتراك إلى التدخل في الأراضي السورية من خلال مجموعة من العمليات (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام) تحت مبرر القضاء على داعش وقوات سوريا الديمقراطية، غير أن العارفين بالشأن التركي يرون في هذا التحرك التركي محاولة من أنقرة لمنع تأسيس أي كيان سياسي كردي، والاستمرار  في التمدد على حساب الأراضي الكردية، خاصة أن الأتراك يرون في الأكراد كابوسًا يهدد مجدهم السياسي التاريخي، خاصة أن تاريخ العثمانيين لا يمكن مقارنته بتاريخ الأكراد الذي يعود -حسب أقرب التقديرات- إلى العهد الآشوري (القرن 20 ق. م).

وبالرغم من أن حل هذه الأزمة يبدو بسيطًا عبر الموافقة على منح الأكراد حكمًا ذاتيًّا موسّعًا تحت السيادة التركية بما يتلاءم مع التوجهات الكبرى للدول التي تضم تشكيلات عرقية مختلفة، إلا أن الاستعلاء التركي وسياسات الإبادة الجماعية في حق الأكراد دفعت بهؤلاء -مضطرين- إلى رفع سقف المطالب في ظل وجود نظام سياسي يسعى إلى إبادتهم بدلاً من احتوائهم وإدماجهم.