أشهرهم يوسف ناسي والطبيب يعقوب

صهاينة قصور السلاطين العثمانيين

تسلل الصهاينة إلى قصور السلطنة العثمانية منذ فترة مبكرة من تاريخ الدولة، وفي سنوات قليلة أصبحوا يتحكمون في مفاصلها، لذلك وجد الصهاينة موطئ قدم في الدولة العثمانية في فترتها الأولى، وقد وصلت بعض الشخصيات الصهيونية إلى مكانة مرموقة، ففي عهد السلطان مراد الثاني (1421-1451) سمح لهم بتملك الأراضي، حتى بلغ بهم الأمر بالصهاينة أن لقبوه بـ”الرجل الإنساني الكبير”.

وخلال عهد مراد الثاني برز كبير الأطباء الصهاينة إسحاق باشا، الذي يعدّ من أوائل الذين أصبح لهم نفوذ واسع في بلاط السلطان، حتى أصدر مراد فرمانًا يعفي هذا الطبيب وعائلته من الجزية، وكان ذلك بداية لتولي العديد من الأطباء الصهاينة مناصب ووظائف مهمة في الحكومة العثمانية.

وتشير الوقائع إلى أن الصهاينة من اليهود وجدوا في الدولة العثمانية ملجأ لهم من الاضطهاد الذي واجهوه في القارة الأوروبية، إذ اعترف بهم الأتراك ضمن نظم الملل العثماني “ميليت” في عهد محمد الفاتح (1451-1481)، الذي سمح لهم بالسكن في إسطنبول، وعيّن لهم حاخام أكبر “موشيه قابسالي”، ومنحه الفاتح سلطات واسعة.

واستدعى محمد الفاتح العديد من العائلات اليهودية للعيش في إسطنبول، وبرز في عهده الطبيب يعقوب اليهودي الذي حصل على رتبة الوزارة، وقد قام بأعمال دبلوماسية مختلفة للدولة العثمانية، في مقابلها أعفته من الجزية والضرائب، ولا شك فقد نعم صهاينة اليهود في الدولة العثمانية أيام الفاتح بعيشٍ رغيد يختلف اختلافًا كبيرًا عما كانوا يجدونه من حكومات أوروبا.

وعلى أية حال فقد استفاد الصهاينة اليهود كثيرًا من نظام “ميليت” في الدولة العثمانية، وهو أشبه بنظام المواطنة، فجعلهم يتمتّعون من خلاله مع مرور الوقت ببعض من مزايا الاستقلال، وأصبح الحاخامات يمارسون سلطتهم في شؤونهم الدينية وحقوقهم المدنية بعد استقرار اليهود في أراضي الدولة العثمانية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي وتجمعهم من شتاتهم من جهات الأندلس، التي طُرد منها قرابة 300 ألف يهودي توزعوا بين البرتغال وإيطاليا والمغرب والدولة العثمانية.

وفي عهد بايزيد الثاني (1481-1512م) تقدمت إليه مجموعة من حاخامات اليهود الصهاينة بطلب السماح لهم بالهجرة إلى الدولة العثمانية، وقد لبّى بايزيد هذا الطلب دون قيدٍ أو شرط، وجلبهم من الأندلس وأسكنهم تركيا العثمانية وثغورها، وأرسل جزءًا منهم إلى جزيرة ساقز، وأمر بأن يعيش هؤلاء بحرية تامة، بل أكثر من ذلك فقد أمر ولاة الأقاليم في الدولة بعدم رفض دخول اليهود أو إثارة المتاعب أمامهم واستقبالهم بحرارة وحفاوة.

ويقول عن ذلك الكاتب الإنجليزي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط برنارد لويس: “لم يُسمح لليهود فقط للاستيطان في الأراضي العثمانية، بل إن العثمانيين شجعوا وساعدوا اليهود، وفي بعض الأحيان أجبروهم على الاستيطان”، وهو ما أكد عليه المؤرخ الفرنسي أندريه ميكال بقوله: “لقد قدمت الإمبراطورية لكل هؤلاء كيان الوطن ضمنًا، أي أنها قدمت لهم كفالة الأمة المنظمة، والحماية اللازمة تحت سيطرتها الخاصة، وبذلك أصبح كل يهود الإمبراطورية خاضعين للحاخام باشي المقيم في إسطنبول ويعدُّ شخصية رسمية في الدولة”.

وبرز من أولئك الصهاينة الوافدين من تولى المناصب في الدولة العثمانية، ومن بينهم على سبيل المثال المجموعة الطبية الخاصة بالسلطان بايزيد الثاني، واستمرت هجرات اليهود إلى الدولة العثمانية حيث قَدِمُوا إليها في القرن السادس عشر الميلادي من مناطق القارة الأوروبية شرقيها وغربيها، وتفيدنا المصادر التاريخية العثمانية واليهودية أن أكثر الفترات التي عاشها اليهود ازدهارًا في الدولة العثمانية كانت بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر الميلاديين، وذلك عندما نجح عدد من الشخصيات الصهيونية اليهودية في تولي بعض المناصب الرفيعة، وحصلوا على نفوذ داخل البلاط العثماني، فكانت إسطنبول العاصمة العثمانية، المكان الذي استوطنه جزء من اليهود الهاربين، حتى بلغ عدد سكان الحي اليهودي فيها عام (1590) ما يربو على عشرين ألفًا منهم.

أجمع مؤرخو الغرب بأن الدولة العثمانية كانت أول من ساعد اليهود على الاستيطان ومنحوهم الاستقلال الذاتي.

ويشير مؤرخو المذكرات الأوربيون إلى صورٍ من نفوذ الصهاينة في بلاط السلطان العثماني، فضلًا عن ثرواتهم المثيرة للانتباه، فيقول أحد هؤلاء المؤرخين: “لم يكن من الأمور الاستثنائية أن تجد بينهم (أي اليهود) أشخاصًا يملك الواحد منهم ثروة تصل إلى مائتي ألف دوكاتية (عملة أوربية ذهبية)” وهو مبلغ يعد كبيرًا جدًّا في تلك المرحلة التاريخية”.

ولعل من الشخصيات التي برزت، وكان لها تأثير واسع في الحكومة العثمانية خلال عهدي سليمان القانوني (1520-1566) وابنه سليم الثاني (1566-1574) الصهيوني يوسف ناسي، المنحدر من إحدى العائلات الإسبانية المهاجرة إلى إسطنبول، ففي عام (1550) بدأ نفوذه بالظهور في بلاط سليمان القانوني وذلك لمعرفته بأحوال السياسة الأوروبية وشؤونها، وكان على دراية كبيرة بها، وتوطدت علاقته بالسلطان القانوني.

وأما في عهد سليم الثاني، فالمصادر التاريخية في مجملها، تشير  إلى أن نفوذ يوسف ناسي قد بلغ ذروته في عهده، فقد أصبح مسؤولا عن الخزانة وكان قائما على تحصيل الواردات من اثنتي عشرة جزيرة من جزر أرخبيل ببحر إيجه، ويذكر المؤرخ “جالانتي” أن دخل يوسف ناسي السنوي قد بلغ حوالي ستين ألف دوكاتيه، وبهذا أصبح شخصية نافذة من الجالية اليهودية في إسطنبول، فقد كان يشعر بالثقة والاستقلالية داخل بلاد السلطان العثماني، بل كانت له تأثيراته السياسية على العلاقات العثمانية الفرنسية آنذاك، وقد انتهى نفوذه الفعلي بوفاة السلطان سليم الثاني، وهناك شخصيات صهيونية كثيرة لا تحصى في تاريخ الدولة العثمانية، كان لها تأثيرها في الحكومة العثمانية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

  1. أحمد حلمي سعيد، النشاط اليهودي في الدولة العثمانية (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2011).
  2. أحمد نوري النعيمي ، الدولة العثمانية واليهود ( بيروت: دار البشير ، 1997)
  3. إيرما لفوفنا فادييفا، اليهود في الإمبراطورية العثمانية صفحات في التاريخ، ترجمة: أنور محمد إبراهيم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2020).
  4. خليل إيناليجك، تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناؤوط (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2002).
  5. قيس العزاوي، الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل الانحطاط (بيروت : الدار العربية للعلوم ، 1994).
  6. هاملتون جيب، المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة: عبد المجيد القيسي ( دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 1997).