"البكتاشية" الرسميَّة للعثمانيين
أقرَّت "الشِّرك"
تماهيًا مع حديثي الإسلام
اكتسبت البكتاشية أهميتها في الدولة العثمانية من الصفة الرسميَّة التي اتخذتها من طريقة الجيش الإنكشاري، وأصبحت راعيًا رسميًا له، فقد كان يقيم بين صفوف الإنكشارية شيوخ الطريقة، حتى أن رئيسهم كان معنيٍّا بتتويج الآغا الإنكشاري، كما لعبت البكتاشية دورًا كبيرًا في إسلام نصارى البلقان على طريقتها، وهي طريقة ذات معتقدات مشبوهة مؤلفة من مجموعة مختلفة من الدين الشعبي في الأناضول، والمُستقى من الشامانية، ومن عقائد أخرى عدِّة لشعوب آسيا الوسطى وشعوب البلقان.
وتشوب هذه الطريقة الكثير من الشٌّبه التي تُثير استفهامات عدِّة حيال ارتباطاتها الباطنية، إذ إن شيخها الأول عُمر حاجي بكتاش ولي من مواليد خُراسان، وقد أُرسل إلى الأناضول في مهمة دعوية تروِّج للفكر الصوفي المتأثر بالتِّشيٌّع، ولم يكن هنالك اعترافًا مباشرًا من هذه الطريقة بتأثرها بالتشيٌّع، إلا أن شجرتها المعتمدة تحوي أسماء يسوية اثني عشريِّة، وقد اعتبرها بعض المؤرخين فرعًا من اليسوية الصوفيِّة الشيعيِّة، على الرغم من أن دعاتها يزعمون أنها كفكر بدأت مع الخليفة الراشد أبو بكر الصدِّيق (رضي الله عنه) وهو بريءٌ منها، غير أن أمرًا كهذا لا يُعتدٌّ به ولا يُنظر إليه، بحسبان ما للصوفية من تأويلات لا تستند على أدلة علميِّة ولا مرويات حقيقية.
أُسلمت طقوس النصرانية على الطريقة الصوفية الرسمية للسلطنة
وتأكيدًا على أثر الباطنيِّة في عقائد كثير من الطٌّرق الصوفية في الأناضول ومنها البكتاشية؛ يصف التركي محمد كوبريلي إسلام الأتراك البدو بأنه لم يكن سنيًا خالصاً كإسلام سكان المُدن، بل كان عبارة عن مجموعة من العقائد الوثنية التركية القديمة، وعقائد غُلاة الشيعة المبسطة بشكلٍ شعبي، والمستترة تحت رداء صوفي، ويؤكد أن شيوخ هؤلاء الصوفية يمارسون طقوسًا منافية للشريعة الإسلامية، وحياة منحلِّة أقرب ما تكون لحياة شامات التٌّرك القُدماء، ورغم تحذيرات سُكان المُدن لهم، ومحاربتهم لفكرهم، إلا أنهم كانوا أكثر تنظيمًا وسيطرة على الحياة الروحية في القرى وبين العشائر التركية، وعدِّ كوبريلي البكتاشية إحدى الطُّرق الملأى بالهرطقة والعقائد الباطنية.
"الباطنية" لم تزل حاضرةً في الذاكرة الشعبيِّة التركيَّة بمعتقداتها ورؤاها وفلسفتها.
كما يؤكد برنارد لويس على أن البكتاشية – رغم اتصالها بالإنكشارية – كانت تحتفظ بطابعها الشعبي المُتطرِّف، الأمر الذي كان مصدر قلق لكثير من العلماء في الدولة العثمانية، وكي لا تتمكن البكتاشية وتسيطر بشكل كامل على مختلف أطياف المجتمع؛ حاول العثمانيون دعم طرق صوفية أخرى، أبرزها الطريقة المولويِّة والتي يسمى أتباعها بالدراويش الراقصين، ويرون أنها الطريقة الأقرب للإسلام السُّني.
وبتحليلٍ منطقي للتناقض بين دعم سلاطين الدولة العثمانية للبكتاشية مع ما تمور به من عقائد باطنية؛ سنلحظ أنهم كانوا يعمدون إلى ذلك ضمانًا لسيطرتهم على الجيش الإنكشاري الذي يخضع خضوعًا كاملاً لها، وبالتالي فإن أي اصطدام بينهم وبينها يُعدٌّ مباشرة اصطدامًا مع الإنكشارية في النهاية، وهذا ما دعاهم إلى دعم طريقة صوفية أكثر قربًا للمذهب السني، لتحقق التوازن بينها والبكتاشية الأقرب للباطنية، وقد بدا هذا الدعم الرسمي للمولويِّة الصوفية التي بدأت تأخذ وضعها وقوتها واضحًا في نهايات القرن السادس عشر الميلادي. وبناءً على هذا الدعم وتحقيق التوازن؛ فإن البكتاشية ستتبيِّن أن المولوية أضحت منافسًا قويًا لها، وستكون بديلاً عنها ماثلاً أمام السلاطين حال وقوع قطيعتهم معها، لكن قوتها استمرت مع بقاء الإنكشارية التي لم تكن تؤمن أو تعلن الولاء لغير شيوخهم البكتاشيين.
ولكن مهما يكن من صراع خفي بين السلطة والبكتاشية؛ إلا أن سياسة السلاطين كانت تتحذ طابع اللِّين والمهادنة معها طمعًا في دعمها، مع أنها – بحسب التركي إينالجيك – لديها اعتقادات وشعائر لا تختلف اختلافًا جوهريًا مع ما كانت تعتقده حركة القزلباش الشيعية، كما أنها لم تكن تُلح على أداء الشعائر الدينية كالصلاة والصوم، ولم تحظر شُرب الخمر، وهذا ما جعلها أكثر إغراءً للنصارى بحكم أنها لا تتعارض كثيرًا مع معتقداتهم بطريقتها الغريبة في فهم الدين وشعائره، بجانب وجود التثليث في عقيدتها المتمثلة بالله ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وعلي (رضي الله عنه)، وطقوس الاعتراف بالذنوب لشيوخهم، كما أن النِّصَ القرآني لديهم له أربعة معاني: ظاهر النِّص للعوام، وزبدة النِّص للحكماء، وخفايا النِّص للأولياء، وحقيقة النِّص للأنبياء.
وقد تعمِّق التأثير النصراني في العقيدة البكتاشية من خلال بالم سلطان ( 880 – 922 ه / 1475-1516م) الذي قيل إنه أحد أحفاد حاجي بكتاش، وقد علت شهرته بعد أن استقدمه بايزيد الثاني إلى التكية البكتاشية سنة 906 ه/ 1501 م، ولأنه من أم نصرانية استطاع إحداث أثر على عقيدة الطريقة وصبغها بطقوس النصرانية، وطوِّر مفهوم الرهبنة في الدِّروشة بعد أن أضاف إليها طقوسًا خاصِّة بها.
وظلِّت البكتاشية على قوتها ونفوذها وسيطرتها في الدولة العثمانية حتى عهد السلطان محمود الثاني، الذي ضربها في مقتل بإلغائه للإنكشارية وتنظيمها العسكري سنة 1241 ه/ 1826 م، وبالتالي فقد أُغلقت تكاياها فور القضاء عليها، ولم يتوان محمود الثاني من صلب شيوخها المتحررين من الدين والأكثر هرطقةً أمام الناس، لذلك انتهت الطريقة كتنظيم وقوة، لكنها بقيت في ذاكرة الشعب التركي، حاضرةً بكثير من معتقداتها ورؤاها وفلسفتها.
1) إحسان أوغلي وآخرون، الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ( ترجمة: صالح سعداوي إسطنبول: إرسيكا، 1999).
2) بديعة عبدالعال، الفكر الباطني في الأناضول (القاهرة: الدار الثقافية، 2010).
3) برنارد لويس، استنبول وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة: سيد رضوان، ط 2 (الرياض: الدار السعودية للنشر، 1982).
4) خليل إينالجيك، تاريخ الدولة العثمانية (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2002).
5) محمد كوبريلي، قيام الدولة العثمانية، ترجمة: أحمد السعيد (القاهرة: دار الكاتب العربي، 1967).