الشعب الذي أرعب "السفاح" سليم الأول

عقد العثمانيون صفقة مؤقتة مع الأكراد ثم انقلبوا عليهم

كان من الطبيعي أن دولة أسست مُلكها على سفك الدماء واستباحة أراضي الغير أن تُحاط بها الأعداء من كل جانب، ولم يعرف التاريخ دولة رفعت شعار القتل مثل الدولة العثمانية التي عادت الجميع دولًا ومواطنين.

لذلك لم يكن غريبًا -حين تولى سليم الأول الحكم في عام (1512)،- أن تكون مملكته مهددة من كل جانب، فمن ناحية المماليك الذين يسيطرون على مصر بثقلها الإقليمي والجغرافي وامتدادها في بلاد الشام، ومن ناحية أخرى الصفويون الملاصقون الذين استطاعوا -في فترة قصيرة- السيطرة على بلاد الكرد وتحويل أذربيجان إلى مستوطنة للقوات الصفوية التي كانت معروفة باسم “القزلباش”، وهي قوات عُرف عنها الشراسة والقدرة على الهجوم في أي وقت.

وتكشف الوثائق التاريخية أن سليم الأول قسّم أعداءه بحسب درجة خطورتهم، وأدرك منذ اللحظة الأولى أن الخطورة الأكبر تكمن في الدولة الصفوية، لا في المماليك البعيدين نسبيًّا عن بلاد الأناضول، كما أدرك أنه لن يستطيع هزيمة الصفويين وحده بسبب ضعف جيشه وضعف قدرتهم على الصمود لفترة طويلة ضد عدو شرس كالصفويين.

ومن هنا بدأ يفكر سليم الأول في البحث عن أعوان، ورغم أن سلاطين الترك ظلوا طوال الوقت قلقين من الأكراد باعتبارهم عرقًا صاحب تاريخ حضاري ويسكن أجزاءً من تركيا، لكن سليم الأول الذي تعامل بمبدأ المصلحة قبل أي شيء، حيث أدرك أنه ليس هناك أفضل من الأكراد يمُكن التحالف معهم لهزيمة الصفويين، فمن ناحية لن يتوقع الصفويون تلك الضربة من الداخل وهو ما يعني إرباكهم وسهولة هزيمتهم، ومن ناحية أخرى يمكن للأكراد المعروفين بشراسة قتالهم القضاء على قبائل التركمان التي رفضت الاعتراف بالدولة العثمانية، وهكذا يضرب جميع أهدافه بطريقة واحدة.

بالنسبة للأكراد لم يكن التحالف مع سليم الأول حبًا في العثمانيين، بل كانت هناك مصالح أيضًا أولها نفور الكرد أتباع المذهب السني من العيش تحت لواء الدولة الصفوية شيعية المذهب، بالإضافة إلى رغبة الأكراد في استرداد استقلالهم الذاتي الذي سلبهم إياه الصفويون.

وبتلك المصالح المشتركة التقى إدريس البدليسي زعيم كردستان، مع سليم الأول، الذي خضع لكافة شروط البدليسي، وكما يوضح المؤرخ العثماني، أوليا جلبي الذي زار الأراضي الكردية آنذاك، فإن تلك الشروط شملت استقلال كردستان وألا تتبع الدولة العثمانية إلا اسمًا فقط، فلا يحق لسلاطين الترك تولية أو عزل أي “خان” وهو لقب حاكم الأكراد، كما يحق للأكراد تكوين جيش خاص بهم وأن تكون ضرائبهم مخففة بجانب حريتهم في تنظيم العلاقات بين الإمارات الكردية مع الدولة العثمانية.

المصلحة العسكرية جعلت سليم الأول يتحالف مع الأكراد ضد الصفويين.

وبفضل توقيع تلك الاتفاقية خاض الأكراد معركة جالديران (1514م) جنبًا إلى جنب مع السلطان سليم الأول الذي نجح مخططه حين استطاع بمساعدة الأكراد أن يهزم الشاه إسماعيل الصفوي الذي فر هاربًا بل وقعت إحدى زوجات الشاه أسيرة في يد سليم الأول، وسمُيت تلك الاتفاقية فيما بعد بتحالف جالديران.

ويرى المؤرخون أن سبب خضوع سليم الأول لكل تلك الشروط غير  المسبوقة، هو يقينه أن مُلكه بات رهن إشارة الأكراد فلو اعترضوا على الاتفاق معه فهذا يعني أن الدولة الصفوية ستمحو العثمانيين من الوجود، كما أشارت روايات تاريخية أخرى أن سليم الأول استفاد أيضًا من الأكراد في جعلهم سد حماية له من هجمات الفرس الذين كانوا على قوة واستعداد لهزيمة بني عثمان في أي وقت.

ولتلك الأسباب حرص سليم الأول على احترام تحالف جالديران رغم سوء سلوكه وسمعته في كافة الاتفاقات التي عقدها بنحوٍ عجز مؤرخو البلاط العثماني أن يخفوه، ورغم لقب سليم الأول بالسفاح لكنه ابتعد عن الكرد ولم يحاول -حتى نهاية حكمه (1520م)- أن يستفزهم؛ مما دفع البعض إلى القول أن علاقة الأكراد بسليم الأول لم تكن إلا شهر  عسل قصير انتهى برحيل السفاح.

بالنسبة للأكراد فحسبما يرى مؤرخون فإن التحالف مع بني عثمان لم يجن عليهم سوى الخسائر والمذابح بعد ذلك، فانضمامهم لسليم الأول جعلهم في مرمى نيران الدولة الصفوية، بالإضافة إلى أن هذا التحالف جعل الأكراد محسوبين على الدولة العثمانية وهو ما يعني أن كل أعداء بني عثمان أصبحوا أعداء الكرد.

ورغم المكاسب المؤقتة التي حققها الكرد بالاستقلال الذاتي، لكن يرى المؤرخون أن تلك المكاسب لم تكن لتدوم مع دولة اشتهر سلاطينها بنقض كافة الوعود والعهود التي اتفقوا عليها، وفي ظل نظام حكم عثماني قائم على القتل والاغتيال وهو ما حدث، فبمجرد رحيل سليم الأول جاء ابنه سليمان القانوني لينقض كل شيء حيث خسر الأكراد كل شيء، مصدقين حينها أن المراهنة على الدولة العثمانية دائمًا مراهنةٌ خاسرة.

سليمان القانوني انقلب على الكرد بعد أن استتبت الأمور لدولته.

  1. روبير مانتران وآخرون، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي (القاهرة: دار الفكر، 1993).
  2. ثريا فاروقي، الدولة العثمانية والعالم المحيط بها، ترجمة: حاتم الطحاوي (بيروت: دار المدى الإسلامي، 2008).
  3. باسيلي نيكيتين، الكرد دراسة سوسيولوجية وتاريخية، ترجمة: نوري طالباني، ط2 (بيروت: دار الساقي، 2001).
  4. توماس بوا، تاريخ الأكراد، ترجمة: محمد تيسير ميرخان (بيروت: دار الفكر المعاصر، 2002).
  5. كاميران عبد الصمد الدوسكي، كردستان في العهد العثماني (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2006).