فرض الفرس طقوسهم القديمة بالمذهبية والتصوف المُنحرف

من حرب "بابك" إلى الاختراق الإيراني للعالم العربي

إذا أردنا إِعدادَ دراسة تاريخية تُبلور المفاهيم العقدية، وتُبَيِّنُ تَطَوُّرَ العقائد الدينية في بلاد فارس، فإننا لا نستطيع الخروج عن فلسفة الصراع بين الخير والشر، التي أصبحت قاعدة إيمانية في الثقافة الفارسية، تشكلت على إثرها دياناتُهم، فصارت الأديان الفارسية تدور في مشهد عَرْضٍ مسرحيٍّ للصراع الوجودي، ومصدرًا للتأطير السلوكي، وتركيز الديانات الفارسية على ثنائية الخير والشر، والنور والظلام مَرَدُّهُ إلى تماهي هذه الظواهر والمبادئ مع الفطرة الإنسانية التي تميل إلى رفض الشر والانتصار للخير، وتفضيل نعمة النور على غياهب الظلام.

على الرغم من اختلاف التفاصيل المفاهيمية، فإن “المبدأ الثنوي” يمكن اعتباره، ليس نقطة التقاء الأديان التي انتشرت في بلاد فارس فَحَسْب، بل مع بعض المعتقدات الصوفية المُتطرفة الشاذَّة التي وَجَدت في فارس بيئةً حاضنةً قابِلةً للمرتكزات الصوفية التي اشتغلت أيضًا على ثنائية الخير والشر.

أقحمت الديانات الفارسية أتباعها في جدلية الصراع الأزلي بين آلهة الخير وآلهة الشر، ودفعتهم إلى ضرورة القيام بالأعمال الخَيِّرة التي ستساعد آلهة الخير على حسم المعركة، وتَبَنَّوا الاعتقاد القائل بأن النار هي رمز لآلهة الخير، ومن ثَمَّ عَكَفُوا على إشعالها في معابدهم حتى تتقوى على آلهة الشر وتنتصر عليها.

وبالعودة إلى الآثار الزرادشتية والمانوية والمزدكية نجد أنهم يجتمعون على الإيمان بـ “المبدأ الثنوي”، الذي ينبثق بالأساس من مكونات العالم، ويفترقون حول مدى التشدد في تطبيق المبدأ، وصياغة الأديان الفارسية لخدماتها للمجتمع الفارسي والمشروع السياسي معًا.

في هذا السياق، لم يكن الاختلاف بين الديانات الفارسية القديمة مرتبطًا بما هو ميتافيزيقي، بقدر ما كان الاختلاف حول القدرة على التأطير الجماهيري، من جهة، والعلاقة مع السلطة الحاكمة من جهة أخرى، التي حددت موقفها من هذه الديانات بناء على مفهوم المصلحة، الذي وجه أسلوب تعامل الحاكم مع هذه التعبيرات الدينية.

وعلى المستوى السياسي، وباستثناء بعض الدول التي تعاملت مع الدين باعتباره مُعطىً مقدسًا موضوعيًّا يجب تنزيله وتنزيهه دون محاولة استغلاله لتحقيق الأهداف السياسية للدولة، مصداقًا لقوله تعالى: “وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم”، فإن مجموعة من الكيانات السياسية جعلت من الدين ملاذًا لمحاولة شرعنة قرارات سياسية خالصة.

وارتباطًا بهذه النقطة، يمكن القول بأن الحكومات التي ترادفت على بلاد فارس قد حددت تعاملها مع الديانات المختلفة بناء على شرطين أساسيين؛ أحدهما ذاتي والآخر موضوعي.

فبالنسبة للشق الذاتي، فإن الديانات التي كانت تروم الانتصار للعرق الفارسي في مواجهة باقي الأعراق، وشكلت أداة للضبط المجتمعي، وجدت لها دعمًا من طرف السلطة. أما الشق الموضوعي فمرتبط بقدرة الديانة على حشد الأتباع لمواجهة أعداء فارس، خاصة الأمويين والعباسيين في فترة ما بعد الفتح الإسلامي، وهو ما ينطبق على المزدكية والخرمية، التي جعل أتباعُها من أنفسهم حطبًا لحروب الفرس ضد الفاتحين العرب.

عقلية السلطة الإيرانية الحالية تشكّلت بناءً على مُعطيات الديانات القديمة انتصارًا للعِرق الفارسي.

وعلى مستوى تحقيق التوازن لبنية الحكم، وجد الفرس في الزرادشتية، قيمة مضافة وعامل استقرار مناسب لتثبيت سلطة الساسانيين، بالنظر إلى أن الزرادشتية كانت المرتكز الشرعي لتأسيس الدولة، على اعتبار أن ساسان جدّ أردشير كان كاهنًا زرادشتيا كبيرًا، ومن ثَمَّ فإن الارتباط بالزرادشتية كان بمنزلة صك لإضفاء الشرعية على أي حاكم ساساني جديد.

ومن جهة أخرى، لم تحظ باقي الديانات بدعم السلطة الفارسية بسبب التهديدات التي قد يشكلها انتشار تعاليم دينية قلقة مثل المزدكية والخرمية، وإذا كان التخوف من المزدكية مرده إلى إيمانها بمشاعية الجنس، وأيضًا أدوات الإنتاج، ومِن ثَمَّ تهديد نقاء العِرق ومصالح كبار الملاك المتحالفين مع السلطة، فإن الخرمية كانت تعبيرًا عنيفًا عن المبادئ الاشتراكية، خاصة بعد تحولها إلى حركة مسلحة متمردة.

ويبدو أن الفرس لم يلجؤوا إلى استئصال المزدكية والخرمية، لكونهما ساهما في مواجهة الفتوحات الإسلامية، خاصة أن بابك الخرمي (798-838م) نجح في تقوية الفكرة وانتشارها بين عموم الناس، كما امتلك أموالاً ورجالاً آمنوا بفكرته، فأنشأ جيشًا قويًّا، ووضع نصب عينيه هدف القضاء على السلطة السياسية للعرب.

إن محاولة فهم البنية السلوكية لحكام إيران اليوم، تقتضي الرجوع إلى التراكمات التاريخية التي ساهمت فيها مجموعة من الديانات، التي حددت طبيعة التعاقد الاجتماعي والسياسي بين السلطة والمجموعات الدينية والعِرقية، التي تقتصر على ثنائية الانتصار للعِرق، وأيضًا تبني تعبيرات عدائية تجاه من يصنفون في خانة الأعداء الأزليين للفرس، هذا المعطى كان وراء التسييس المذهبي وتطويعه لما يخدم الأجندة العِرقية لحكام إيران الحاليين.

  1. أحمد أمين، فجر الإسلام، ط2 (القاهرة: هنداوي للتعليم والثقافة، 2012).

 

  1. حسن بيرنيا، تاريخ إيران القديم من البداية حتى نهاية العصر الساساني، ترجمة: محمد نور عبد المنعم، والسباعي محمد السباعي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013).

 

  1. عبد اللطيف السلطاني، المزدكية أصل الاشتراكية (الجزائر: د.ن،1974).

 

  1. فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان، ترجمة: عبد الرزاق العلي (بكين: التكوين، 2016).

 

  1. هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).