النكبة الروسية في خدمة دكتاتورية السلطان العثماني

جوقة: عبدالحميد

"كطفلٍ خائف جُلد ظهره بهراوة غليظة"

تميزت العلاقات الروسية العثمانية بتنافس كبير بين الإمبراطوريتين، آخذتان في بعض الأحيان بعدًا دينيًّا وفي أحيان أخرى بعدًا استعماريًّا واقتصاديًّا، حيث تمحور الصراع الديني بالأساس حول الامتياز المرتبط باحتكار المرجعية الدينية في المنطقة، خصوصًا بعد سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين وهو ما شكَّل فرصة تاريخية لروسيا القيصرية التي كانت ترى في نفسها الوريثة الشرعية للإمبراطورية البيزنطية. 

ومن الناحية الاستراتيجية، كانت روسيا عاجزة عن الوصول إلى مياه المتوسط الدافئة وهو ما دفعها إلى محاولة إجبار العثمانيين على السماح لهم باستعمال الممرات لأهداف تجارية وأخرى حربية وهو التدافع الذي أخذ أشكالاً عنيفة خصوصًا في القرن التاسع عشر حيث اندلعت حروب القرم (1853- 1856م)، التي انتهت بمؤتمر باريس الذي أعطى امتيازات كبيرة للعثمانيين قبل أن تندلع الحرب البلقانية (1877-1878م) التي انتهت بهزيمة مذلة للعثمانيين حين أُجبروا على توقيع معاهدة سان ستيفانو قبل أن تتدخل بعض الدول لإنقاذ ماء وجه السلطنة والدعوة إلى مؤتمر برلين الذي يمكن اعتباره البداية العملية لسقوط الدولة العثمانية وفتح ملف ما أطلق عليه بالمسألة الشرقية.

ويطلق اصطلاح المسألة الشرقية على جميع المشكلات التي ارتبطت بانهيار الدولة العثمانية داخليًّا وثورات الشعوب المحكومة منها، وأخيرًا يُحيل المصطلح على المصالح المتشابكة والمتضاربة للدول الأوروبية في الإمبراطورية العثمانية وتدخل هذه الدول في عملية الانهيار العثماني.

إن الغرض من دراسة علاقة السلطان عبدالحميد الثاني بروسيا ليس مرتبطًا بإعادة اجترار الوقائع التاريخية التي تحفل بها الكتب والمؤلفات التي رصدت العلاقة بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، وإنما بمحاولة الإجابة عن الإشكالية المنهجية التي تعتبر مركز ثقل المقالة العلمية. وتبقى هذه الإشكالية، في اعتقادنا، مرتبطة بالجواب على السؤال التالي: كيف ساهمت الهزيمة العسكرية أمام روسيا في تقوية النفوذ السياسي للسلطان عبدالحميد الثاني؟ وكيف استفاد هذا الأخير من ظروف ما بعد الحرب لينجح في تحويل نظام الحكم في السلطنة من نظام برلماني إلى نظام ديكتاتوري جعل البعض يصف السلطان بـ “الطاغية”؟

في هذا السياق، كان الوضع السياسي الداخلي في أعقاب تولي عبدالحميد الثاني لولاية العهد متأزم جدًّا، حيث ظلت صورة إقصاء ومقتل أو انتحار السلطان عبد العزيز لا تفارق مخيلته، خاصة أن من تلطخت أيديهم بالدماء لازال بعضهم يتقلد مناصب مهمة ويتحرك بحرية تامة داخل المطبخ السياسي، وهو ما جعله يرتاب من هذه الطغمة، حيث ظل يردد بأن المتمردين والثوريين سوف يظلون مفسدين في كل زمان ومكان. وكان عبدالحميد ينتظر الفرصة المواتية للقضاء على هؤلاء المتربصين بكرسي السلطنة. 

على الجهة المقابلة، كان الروس يرون في القسطنطينية رمزية دينية وأهمية استراتيجية لإشرافها على ممرات البوسفور والدردنيل المؤدية إلى مياه البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم فإن التحكم في هذه الممرات يعني ضمان حرية عبور السفن التجارية والحربية، خصوصًا مع تحول الثقل الاقتصادي إلى مرفأ أوديسا الروسي المطل على البحر الأسود.

مارس الروس وصايتهم على إسطنبول باعتبارها رمزية دينية لهم في عهد عبدالحميد الثاني.

القضية البلقانية

شكلت هزيمة الدولة العثمانية أمام روسيا ودول البلقان فرصة تاريخية لهذه الدول للمطالبة باستقلالها التام عن حكم العثمانيين، حيث اجتمعت مجموعة من الشروط الذاتية والموضوعية لتحقيق حلم استقلال هذه الدول. وإذا كان المعطى الديني حاضرًا في دعوات الاستقلال، فإن معظم الكتابات تقطع بأن الدافع الديني كان هامشيًّا أمام اتساع الفوارق الاجتماعية بسبب السياسات الاجتماعية السلبية للدولة العثمانية وأيضًا تصاعد الاتجاهات القومية دون إغفال تدخل مجموعة من القوى الأوروبية التي رأت نفسها معنية بشكل مباشر أو غير مباشر بالمسألة الشرقية. 

ويمكن القول بأن السياسة العثمانية في منطقة البلقان، وعلى خلاف ما يروج له البعض، لم يتضرر منها المسيحيون فقط وإنما المسلمون هناك أيضًا، بل ذهب البعض إلى أن المسلمين كانوا أشد تضررًا من السياسات والإصلاحات العثمانية التي اقتصرت على المسيحيين دون أن تشمل المسلمين مثل إسقاط بعض الضرائب والإعفاء من الخدمة العسكرية وغيرها، بالإضافة إلى التدخل التفضيلي للقناصلة الأجانب لفائدة المسيحيين. ورغم هذا التمييز فإن المجتمع البلقاني عانى من سياسة طبقية خطيرة؛ حيث إن الفوارق الاجتماعية لم تكن بين المسلمين وأهل الذمة، بل كانت طبقة حاكمة وأخرى محكومة. وفي كل طبقة كان بإمكان المرء أن يجد أناسًا من كلا الفئتين.

إن الصراع الطبقي الذي ساهم في عملية التعبئة والحشد ضد الدولة العثمانية سيتم استغلاله من طرف روسيا، حيث بدأت تنشط في ذلك التاريخ الأفكار الماركسية التي تبلورت فيما بعد لتعلن بأن الصراع الطبقي هو أحد “أهم معاول الثورة” بتعبير ليون تروتسكي.

وفي هذا الصدد، استغلت روسيا القيصرية سياسة التعسف والتسلط ونظام الضرائب والجباية الذي فرضه العثمانيون على سكان المنطقة لتقوية الشعور القومي عند شعوب البلقان ودفعهم إلى الثورة على الحكم العثماني مستفيدين في ذلك من الوضع الداخلي للسلطنة التي كانت تعيش على وقع أزمة سياسية داخلية كانت تهدد بإفلاسها وتنذر بأفول نجم سلطان آل عثمان.

عبدالحميد الثاني كان يتحاشى مواجهة مباشرة مع روسيا

كان السلطان يعلم حجم الأزمة السياسية التي تعاني منها بلاده وأيضًا اختلال موازين القوى بينه وبين روسيا، ولذلك عبر عن تخوفه من مواجهة روسيا القيصرية غير أنه استسلم تحت ضغط مؤسسات الدولة التي كانت تدفع في اتجاه إعلان الحرب على روسيا. وهذا التخوف عبر عنه عبدالحميد الثاني بالقول: “إن المتاعب والمصائب التي سببتها لنا روسيا في الماضي القريب لن تنمحي من الذاكرة، إنها أخطر وأكبر عدو مروع مفزع قريب من حدودنا”. 

لقد عمل عبدالحميد الثاني على تفادي إزعاج روسيا وحاول التودد إليها بطريقة لا تليق بتاريخ الدولة العثمانية ووزنها حيث يصف سليمان جوقه باش تعامل عبدالحميد الثاني بـ “الطفل الخائف الذي جُلد ظهره بهراوة غليظة”. هذا الشعور تسرده الأميرة عائشة عثمان أوغلو ابنة السلطان في مذكراتها حيث تقول: “إنه كان لا يفوت فرصة سانحة من أجل تقوية أواصر الود والصداقة مع القيصر الروسي من أجل حماية الدولة العثمانية من المخاطر المهلكة التي يمكن أن تتأتى من روسيا، وأن ظروفنا الجغرافية تفرض علينا هذا وتجعله أمرًا واجبًا حتميًّا لا مناص منه البتة”. 

لقد أبدى عبدالحميد الثاني ليونة كبيرة في تعامله مع القيصر الروسي واستعداده للتنازل عن بعض الأراضي التي كانت تحت سلطنة العثمانيين مع المناورة لمواصلة التحكم في الممرات التي كانت بمنزلة الهدف السياسي الأسمى لروسيا للوصول إلى مياه المتوسط الدافئة. وفي هذا الصدد يقول السلطان العثماني: “إن المضائق بالنسبة لتركيا مسألة حياة. ولزام علينا المحافظة عليها وحمايتها مهما كان الثمن”.

تفادى إزعاج موسكو وتودد لها لدرجة الإذلال.

عبد الحميد الثاني والمواجهة مع روسيا:

إن الحرب الروسية العثمانية، أو ما عرف تاريخيًّا بالحرب البلقانية، ورغم أنها أدت إلى اندحار جنود السلطنة وانهيار وهم الإمبراطورية العثمانية، إلا أن الشواهد تفيد بأن أكثر المستفيدين من هذه الهزيمة هو السلطان عبدالحميد نفسه، حيث استغل “النكبة” لتركيز جميع السلطات في يده وحل مجلس المبعوثان وقَطَع مع الآلية الديمقراطية في الحكم، حيث أصدر فرمانًا يقضي بتعطيل المجلس قرأه رئيس الوزراء أحمد رفيق باشا. ويُروى عن السلطان قوله عقب قرار التعطيل: “لقد تبين لي بأنني كنت على خطأ عندما حاولت أن أخدم أمتي بالسير على طريق والدي السلطان عبدالمجيد وإنشاء المؤسسات الديمقراطية. أما الآن فإنني سأسير على طريق جدي السلطان محمود لأنني أيقنت الآن بأن طريق القوة هو الطريق الوحيد الذي أستطيع به أن أخدم الأمة التي حمّلني الله أمانة قيادتها والحفاظ عليها”. 

ويمكن القول، بأن السلطان عبدالحميد الثاني، وعلى غرار العثمانيين الجدد، عمل على استغلال الانتكاسة أمام روسيا لتحويل نظام الحكم من النمط البرلماني إلى الحكم الشمولي وتركيز جميع السلطات في يده وحكم المناطق الخاضعة للسلطنة العثمانية بيد من حديد، وهي السياسة الدكتاتورية التي سيتحمل العرب نصيب الأسد منها.

1. عبد الرؤوف سنو “العلاقات الروسية العثمانية: سياسة الاندفاع نحو المياه الدافئة”، مجلة تاريخ العرب والعالم، عدد 73-74 لسنة 1984، ص 48. 

2. عبد الرؤوف سنو، المرجع السابق، العدد 79-80 لسنة 1985، ص 5.

3. سليمان جوقه باش “السلطان عبد الحميد الثاني، شخصيته وسياسته”، المركز القومي للترجمة، إسطنبول 1995، ص 297.

4. المرجع السابق، ص 298.

5. مذكرات عائشة عثمان أوغلو “والدي السلطان عبد الحميد الثاني”، دار البشير للنشر والتوزيع، جدة 2007، ص 49.

6. سليمان جوقه باش، مرجع سابق ص 300.

7. أورخان محمد علي “السلطان عبد الحميد الثاني: حياته وأحداث عهده”، إسطنبول 2008، ص 95.