بعد استيلاء حملة خورشيد (1838) على الأحساء
أطماع العثمانيين في الخليج العربي عجلت بنهايتهم
تطوّرت طموحات الوالي العثماني في مصر محمد علي في الجزيرة العربية بعد حملة خورشيد باشا عليها سنة (1837م)، لذلك تشير المصادر إلى إدراك محمد علي ضرورة مدّ نفوذه إلى الخليج العربي، ومن هنا جاء حرصه الشديد على عدم الاكتفاء بالسيطرة على داخل الجزيرة العربية، وإنما السيطرة أيضًا على سواحل الخليج العربي حتى يستطيع تأمين نفوذه في نجد.
لذلك أصدر محمد علي أوامره إلى قائده خورشيد باشا، بضرورة العمل على تحقيق هذا الأمر، وبناءً على ذلك ومنذ آواخر عام (1838) بدأ الغُزاة العثمانيون الانتشار في الخليج العربي، بعد احتلالهم الأحساء، التي تُعد أقرب مناطق الخليج العربي إلى وسط الجزيرة العربية.
الخطوة الأكثر إثارةً كانت بتقدم قوات خورشيد باشا لاحتلال موانئ القطيف والعقير على ساحل الخليج العربي، ووضع حاميات عسكرية بهما، مما وضع محمد علي في مواجهةٍ مباشرة مع المصالح الاستعمارية الأجنبية في الخليج العربي.
لذلك يرصد المؤرخ الإنجليزي هنري دودويل معتمدًا على وثائق الأرشيف البريطاني، توتر العلاقات البريطانية مع محمد علي جرَّاء ذلك، ويستعرض تقرير المعتمد البريطاني في الخليج في مطلع عام (1839) انزعاج بريطانيا من وصول قوات محمد علي إلى الأحساء والقطيف، وكذلك الأراضي الواقعة على طول الشاطئ العربي للخليج، كما توقع المعتمد البريطاني حينها أن الخطوة التالية ستكون إصرار الحاكم الذي عيَّنَه محمد علي على تقمص الدور في طلب الزكاة من الحكام المحليين على الخليج العربي استمرارًا لما كانوا يتعاملون به مع السعوديين.
لكن الأمور تطوّرت بشكل أكثر إثارةً؛ إذ تذكر الوثائق البريطانية أن خورشيد باشا أرسل خطابًا إلى المعتمد البريطاني في الخليج العربي يخبره بعزمه على احتلال البحرين وضمها إلى سلطته، والأكثر من ذلك ما تذكره إحدى الوثائق البريطانية من الحديث المتغطرس الذي أفضى به أحد قادة جيش محمد علي في القطيف إلى أميرال إنجليزي كان يزور الخليج، بأن خورشيد باشا ينتظر الإمدادات من المدينة ليقوم بالاستيلاء ليس على البحرين لِوَحدها، بل الزحف أيضا للاستيلاء على البصرة وبغداد، لضمان سيطرة محمد عليّ على الخليج العربي كاملاً.
ويرى دودويل أن هذا النشاط المشبوه لقوات محمد علي في الخليج، كان يعني الاعتداء على البحرين، ويذكر أن الوثائق البريطانية تصف شيخ البحرين بأنه “أحد زعماء العرب المسالمين في الخليج، وأنه وقَّع على المعاهدة العامة في عام 1820 مع بريطانيا”.
من هنا عقدت حكومة الهند البريطانية، المختصة بشؤون الخليج العربي الرد على تصريحات خورشيد باشا بلهجة خشنة، كما قامت بإرسال الإمدادات وشجعت على الوقوف في وجه قوات محمد علي.
فشلت محاولات محمد علي في إيضاح أن الإشاعات حول توسعه في الخليج العربي مجرد مزاعم يرددها أعداؤه، لكن بريطانيا من خلال تقارير معتمدياتها أشارت إلى اتّباع محمد علي سياسة توسعية، شبيهة بسياسته التوسعية في جنوب الجزيرة العربية للسيطرة على طرق التجارة الدولية، وأن ذلك سيُلحِق الضرر الشديد بالمصالح البريطانية في المنطقة.
كما تشير التقارير البريطانية إلى اتصالات سرية لمحمد علي بعناصر دبلوماسية فارسية، وكانت إيران في ذلك الوقت تحت التأثير الروسي، لذلك أرسلت الدبلوماسية البريطانية سؤالاً حول توسع محمد علي هل هو بإرادة عثمانية، أم سياسة منفردة من جانب محمد علي، تمهيدًا للتصدي له، ومن هنا أرسلت بريطانيا عبر مندوبها إلى محمد علي خطابًا شديد اللهجة “بأن يدع جزيرة البحرين وشأنها”.
انتهت المناورة العثمانية المتمثلة في الوالي محمد علي مع القوى الاستعمارية التي كانت بريطانيا على رأسها بمعاهدة لندن سنة (1840)، والتي فرضت على محمد علي إنهاء طموحاته التوسعية، وعدم الدخول في مناطق الصراع مع بريطانيا.
وضعت معاهدة لندن (1840) حدًّا لسياسة الوالي العثماني محمد علي التوسعية في الخليج العربي.
- هنري دودويل، الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد عليّ، تعريب: أحمد عبد الخالق وعليّ أحمد شكري (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2018).
- السيد فرج، حروب محمد علي (القاهرة: مطبعة التوكل، 1999).
- عبدالرحمن الرافعي، عصر محمد علي، ط5 (القاهرة: دار المعارف، 1989).
- عبدالرحمن زكي، التاريخ الحربي لعصر محمد علي الكبير (القاهرة: دار المعارف، 1950).
تسببت -بشكلٍ غير مباشر- في رحيل غُزاة الجزيرة العربية سنة (1840)
الأوروبيون أنقذوا العثمانيين بـ "لندن" بعد أن ارتدَّ عليهم واليهم في مصر
لم يكن الوالي العثماني على مصر -محمد علي باشا- أكثر من كونه سياسيًّا غلبه الطموح لدرجة جعلته يحلُم بأنه سيرث الشرق العربي كله، أو ربما سلطنة العثمانيين كلها، خاصةً أن أسياده العثمانيين جاؤوا للشرق خِلسة، وسرقوا العالم العربي، واختطفوا آخر خلفاء العباسيين ليسلبوا العرب حقهم الشرعي في السلطة على أراضيهم.
اعتقد محمد علي باشا، الذي سيّر الحملات على الجزيرة العربية أنه ورث سلطة الدولة السعودية بكل أقاليمها التي امتدت إلى بحر العرب شرقًا، وكل ساحل البحر الأحمر غربًا والمدينتين المقدستين، وتعاظم طموحه بالاقتراب كثيرًا من المحيط الهندي، ليكون ندًا للإمبراطورية البريطانية التي كانت حينها تجوب أعالي البحار.
وأصبح الباشا يرى العالم من خلال طموح تحقيق إرث ضخم بالسيطرة على طرق التجارة العالمية، وتعاظم الأمر لديه بأن يعتقد قدرته السيطرة على الجزيرة العربية بما فيها الحرمين الشريفين.
طموحات الوالي العثماني تعاظمت ونمت بناءً على ما كان ينتهجه سلاطين العثمانيين بالهيمنة على الأقاليم البعيدة من خلال ولاة شبه مستقلين، يفرضون هيمنتهم عليهم، ويتلاعبون بهم من خلال بناء التحالفات الداخلية والسيطرة على مراكز القوى وصناعة الانقلابات وضربها ببعضها البعض.
تحسست إسطنبول كثيرًا من طموحات الباشا واليها على مصر، ولكنها لم تُرد خسارته، فكلاهما يحتاج الآخر، ولم يجد العثمانيون غيره للتصدي للدولة السعودية الناهضة التي سقطت سنة (1818)، ووجدوها فرصة لتحجيم قوته لمعرفتهم بقوة السعوديين وصلابتهم، بعدما جرّب واليهم في العراق محاربتهم فخسر، ورفض واليهم في الشام الانخراط في حملات العثمانيين على الدرعية.
فرض العثمانيون سيطرتهم على ولاتهم في العالم العربي بالتلاعب بهم من خلال الانقلابات ودعم القوى المختلفة.
استجاب الباشا ولم يكن يعلم أن تلك الأوامر السلطانية تحمل في داخلها فخًّا لتحجيم قواته واستنزاف أمواله وجيوشه، صحيح أن العثمانيين سخّروا له المجندين وزودوه بالأسلحة، لكنهم كعادتهم يستأثرون بالفائدة الكبرى العامة.
على إثر احتلال العثمانيين المؤقت أجزاء من الجزيرة العربية من خلال واليهم محمد علي باشا، توجّه طموح الباشا جنوبًا سعيًا لاحتلال السودان وضمها لملكه، وبعدما استتب له الأمر، وجد السلطان العثماني محمود الثاني المشغول بملذاته أن ثورة كبرى تكاد تطيح بولاية اليونان، فسيَّر جيوشه المنهارة أصلًا، وبعد فشل عسكره طلب من واليه في مصر النجدة والتدخل، وكانت خطة الباشا الاستجابة السريعة لإثبات أهميته، وكان له ذلك، فكاد أن ينتصر لولا تدخل الدول الأوروبية المتمثلة في الروس والإنجليز والفرنسيين، وكادت الخسائر اللاحقة أن تعصف بحكم الباشا، الذي وجد أنه قد حان الوقت لفصل سياساته عن السلطان العثماني، وليعلن انسحابه وعودته إلى مصر.
خسر والي مصر في تلك الحرب حوالي ثلاثين ألفًا من جنده، وفقد معظم أسطوله البحري، بعد الضربة القاصمة التي أنزلها التحالف الأوروبي بالأسطول المصري والعثماني في موقعة نفارين البحرية سنة (1827)، فأحجم محمد علي باشا عن الاستمرار في مجابهة الأوروبيين، ورجعت بقايا أسطوله المُحطّم إلى الإسكندرية.
توقّع محمد علي باشا أن العثمانيين سيقدّرون له خدماته الكبيرة بحربه في الجزيرة العربية، بعد انتصارات السعوديين التي أذلت العثمانيين، خاصةً بعد أن استرد السعوديون الحرمين الشريفين من الاحتلال العثماني التركي، وفي اليونان حيث أُهين جيش السلطنة، إلا أن إحساس إسطنبول بخطر محمد علي باشا دفعها لتهميش دوره والتقليل منه، حتى أن السلطان لم يمنح الباشا إلا جزيرة كريت اليونانية، التي وجدها الباشا إهانة، بعد أن توقع الحصول على أقاليم كبرى مثل الشام.
ولأن الشام كانت بطبيعتها وجغرافيتها حاجزًا طبيعيًّا بين أتراك الأناضول والعالم العربي، تصاعدت أهميتها وأصبحت ساحة صراع دامية منذ احتلال العثمانيين للعالم العربي. لذلك خطط محمد علي باشا أن يضم بلاد الشام إلى ولايته رغمًا عن سلطانه العثماني، حتى يظفر بمواردها الاقتصادية ومهارة أبنائها الحرفية، وساعده في ذلك -كما تؤكد المصادر التاريخية – ضعف الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب اليونانية، ثم الحرب الروسية سنة (1829)، وكثرة الثورات والاضطرابات داخل السلطنة، يضاف إلى ذلك أن محمد علي استطاع أن يضم إلى تحالفاته بشير الشهابي كبير أمراء لبنان.
واستطاعت قوات والي مصر أن تحقق انتصارات غير مسبوقة في بلاد الشام، فسيطرت على غزة ويافا وحيفا وصور وصيدا وبيروت وطرابلس، وفشلت محاولات الدولة العثمانية في وقف تقدم واليهم، لذا حشد العثمانيون عشرين ألف مقاتل وزحفوا لملاقاته، والتقى الجيشان في سهل الزراعة قرب حمص في إبريل (1832)، وانتصر على سلطنته في عكا الحصينة، ودمشق، وحمص، وتعد هذه المعركة من أهم معارك جيش محمد علي باشا لأنها أول معركة يتقاتل فيها جيشه ضد الأتراك وجها لوجه، وأظهر فيها تفوق جيشه الحديث.
وبعد هذه المعركة تقدّم جيش محمد علي فاحتل حماة وحلب، وانتصر على العثمانيين في موقعة بيلان، واجتاز حدود سوريا الشمالية، ودخل إبراهيم باشا بقواته ولاية أضنة في بلاد الأناضول.
وكانت ولاية أضنه مفتاح الأناضول، كان السلطان محمود الثاني وجهًا لوجه أمام الهزائم التي حاقت بجيشه، وأعدّ جيشًا جديدًا بقيادة الصدر الأعظم “محمد رشيد باشا”، وبلغ قوام هذا الجيش 53 ألف مقاتل، ونشبت معارك شرسة بين الفريقين، انتصر فيها الوالي محمد علي، وكان أهمها موقعة قونية 21 ديسمبر (1832)، التي فتحت الطريق أمامه إلى إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية، إذ أصبحت قاب قوسين أو أدنى من سيطرة الباشا عليها.
على عكس ما اعتقد الكثيرون من خلاف كبير بين الأوربيين والعثمانيين، إلا أنهم يفضلونهم عن غيرهم، وشكّلت انتصارات مصر بقيادة محمد علي قلقًا كبيرًا في أوروبا، وخاصة بعد فتح الطريق أمام جيوشه للانطلاق إلى إسطنبول، بجانب ما أصبح عليه الجيش البحري المصري من قوة، وهو ما شكّل خطرًا جسيمًا على الأوروبيين مستقبلًا.
وسارع الأوروبيون لمساعدة السلطنة العثمانية، وبدأوا في تقوية شوكتها في مواجهة محمد علي باشا، معلنين البدء في وساطة منحازة بالكامل للعثمانيين غير مبنية على انتصارات الباشا على الأرض، وأسفرت عمَّا يسمى بمعاهدة لندن.
انحاز الأوروبيون للعثمانيين ضد محمد علي رافضين أي محاولة استقلال عن السلطنة.
وأعلنت بريطانيا -بكل صراحة- عداءها المطُلق للوالي العثماني محمد علي، وأعلنت ضرورة المحافظة على السلطنة، وانسحاب محمد علي من سوريا؛ لأن وجوده فيها يعني سيطرته على البحر الأبيض المتوسط.
تكفّل الإنجليز بإعداد السياسة والتحالفات اللازمة لاستعادة العثمانيين أقاليم سلطنتهم، إذ قدّم السفير الإنجليزي برفقة بعض السفراء الأوروبيين في إسطنبول مذكرة إلى الباب العالي في 27 يوليه سنة (1839) يطلبون إليه باسم الدول الخمس، النمسا، وروسيا، وإنجلترا، وفرنسا، وروسيا، ألَّا يُبْرِمَ أمرًا في شأن محمد علي، إلا بإطلاعهم واتفاقهم.
وكانت مذكرة الدول إلى الباب العالي، تعد إلغاءً لنتائج معركة نُصيبين التي هُزم فيها العثمانيون أمام واليهم، وكان هذا الجانب انتصارًا لوجهة نظر إنجلترا، أما العثمانيون فقد وضعتهم المذكرة تحت وصاية الدول الأوروبية، وفقدوا بذلك استقلالهم الفعلي.
وافق العثمانيون على طوق النجاة الذي حمله لهم الأوروبيون في 15 يوليه سنة (1840)، وقضت المعاهدة بإخراج محمد علي باشا من سوريا ومنح امتيازات تعهَّد السلطان بتخويله محمد علي باشا بحكم مصر، ما يعني أنه لا استقلال لمصر عن الدولة العثمانية. وجاءت بنود المعاهدة وفق الآتي:
أولا: أن يخوّل محمد علي وخلفاؤه حكم مصر الوراثي، ويكون له مدة حياته حكم المنطقة الجنوبية من سوريا المعروفة بولاية عكا، بما فيها مدينة عكا ذاتها وقلعتها، بشرط أن يقبل ذلك في مدة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ تبليغه هذا القرار، وأن يشفع قبوله بإخلاء جنوده من جزيرة كريت والجزيرة العربية، وإقليم أضنة وسائر البلاد العثمانية عدا ولاية عكا، وأن يُعيد إلى تركيا أسطولها.
ثانيًا: إذا لم يقبل هذا القرار في مدة عشرة أيام، يُحرم الحكم على ولاية عكا، ويُمهل عشرة أيام أخرى لقبول الحكم الوراثي لمصر وسحب جنوده من جميع البلاد العثمانية وإرجاع الأسطول العثماني، فإذا انقضت هذه المُهلة دون قبول تلك الشروط، كان السلطان في حل من حرمانه من ولاية مصر.
ثالثًا: يدفع محمد علي باشا جزية سنوية للباب العالي تتبع في نسبتها البلاد التي تُعهد إليه إدارتها.
رابعًا: تُحكم عكا وفق المعاهدة التي أبرمتها السلطنة العثمانية وقوانينها الأساسية، ويتولى محمد علي وخلفاؤه جباية الضرائب باسم السلطان على أن يؤدوا الجزية، ويتولون الإنفاق على الإدارة العسكرية والمدنية في البلاد التي يحكمونها.
خامسًا: تُعد قوات مصر البرية والبحرية جزءًا من قوات السلطنة العثمانية، ومُعدّة لخدمتها.
سادسًا: يتكفّل الحلفاء -في حالة رفض محمد علي باشا لتلك الشروط- أن يلجأوا إلى وسائل القوة لتنفيذها، وتتعهد إنجلترا والنمسا في خلال ذلك أن تتخذ باسم الحلفاء، بناء على طلب السلطان العثماني، كل الوسائل لقطع المواصلات بين مصر وسوريا ومنها وصول المدد من إحداهما للأخرى، وتعضيد الرعايا العثمانيين الذين يريدون خلع طاعة الحكومة المصرية والرجوع إلى الحكم العثماني وإمدادهم بكل ما لديهم من المساعدات.
سابعاً: إذا لم يذعن محمد علي للشروط المتقدمة، وجرّد قواته البرية والبحرية على إسطنبول، فيتعهد الحلفاء بأن يتخذوا بناء على طلب السلطان كل الوسائل لحماية عرشه وجعل عاصمته بمأمن من كل اعتداء.
بالطبع كانت شروطا مُذلة، رفضها محمد علي باشا كونه هو المنتصر على العثمانيين، لكن الأوروبيين فضّلوا العثماني على غيره، لتمكينهم من سيطرتهم على العالم العربي على عكس ما يقوله البعض من أن الأوروبيين أعادوا العثمانيين، كان الأمر كله مصالح تتقاطع بينهم، لكنهم اتفقوا جميعًا على أنه لا استقلال للعرب خاصة في تلك الحقبة من التاريخ.
- السيد فرج، حروب محمد علي (القاهرة: مطبعة التوكل، 1999).
- عبدالرحمن الرافعي، عصر محمد علي، ط5 (القاهرة: دار المعارف، 1989).
- عبدالرحمن زكي، التاريخ الحربي لعصر محمد علي الكبير (القاهرة: دار المعارف، 1950).
خلال حملته على الأحساء للسيطرة على الموارد المالية والاقتصادية
الإمام عبدالله بن فيصل أفشل "مدحت باشا" في التفرقة بين السعوديين
أحدثت الدولة السعودية الثانية قلقًا ومصدر استفزازٍ للسلطنة العثمانية، التي كانت تسعى إلى تحويل حدود السعوديين إلى أراضٍ عثمانية مع القبول بمنحهم نوعًا من الحكم الذاتي تحت السيادة السياسية للباب العالي، ولقد لجأ سلاطين آل عثمان إلى جميع الوسائل المُمكنة لاستمرار حالة وضع اليد على الجزيرة العربية وعدم السماح بقيام أو تأسيس دولة سعودية بإمكانها استرداد الحرمين الشريفين إلى الحاضنة العربية، ومن ثم حرمان الأتراك العثمانيين من الصبغة الشرعية التي يقصدون منها شرعنة تدخلهم المباشر في الأراضي العربية من دون وجه حق.
في هذا السياق، حاول العثمانيون اختراق البيئة الداخلية في الجزيرة العربية لبث الخلافات بين أطرافها، لإيجاد منفذ لشق الصف وتشجيع طرف على آخر من أجل تعميق الشرخ داخل الوطن الواحد، ولتكون التبعية مضمونة لهم.
وفي تطبيقٍ عملي لهذا التكتيك الخبيث شكّلت حملة مدحت باشا على الأحساء، إحدى مظاهر “قصة الشيطان مع إخوة يوسف” وأكدت بأن مبادرات توحيد الصف وإصلاح ذات البين كانت أخرى اهتمامات من ظلّوا يدندنون بشعارات “الخلافة الإسلامية” و”الوحدة الإسلامية”، فالهدف الحقيقي للحملة كان رغبة مدحت باشا في مد نفوذ الدولة العثمانية على الخليج العربي، خاصة أن إخضاع الأحساء كان ضرورةً استراتيجية للتوسع في مناطق الخليج العربي لمكانتها الاقتصادية، وما يتوفر فيها من خيرات جعلتها محط أطماع العديد من القوى الاستعمارية.
حاول العثمانيون إيجاد منفذ لهم على الخليج العربي للمشاركة في التنافس الاستعماري.
في هذا الصدد، جاءت حملة مدحت باشا (1871) لتحقق هدفين استراتيجيين متكاملين؛ يتمثل الأول في مد نفوذهم للخليج ومنافسة القوى الاستعمارية فيه على خيراته، والثاني الاستفادة من القطيف والأحساء الغنية بالموارد العينية والمالية، وهنا نجد مدحت باشا يشير إلى مبررات الحملة ودوافعها في إحدى رسائله للباب العالي فيقول: “إذا كان لتلك المناطق من خلاص بقوة الدولة ومعونتها فإن تشكيل متصرفية مثلا يتيح الاستفادة ماليًّا من القطيف والأحساء اللتين تبلغ وارداتهما وحدهما مائتي ألف ريال”.
كشف السعوديون نوايا العثمانيين في السيطرة على الأحساء، وهو ما أكده مدحت باشا نفسه في مذكراته حيث قال بأن الإمام عبدالله بن فيصل على رغم الإغراءات العثمانية التي قدمت له إلا أنه لم يرضَ بالتبعية فعليًا للعثمانيين، لأنه لا يقبل إلا أن يكرر تاريخ آبائه وأجداده في تأسيس وطنٍ حر، لا قوة تعلو على قوته في حدوده، لذلك قال مدحت عن سياسة الإمام عبدالله: “وكان جل مقصده الاستقلال وإعادة موظفي الحكومة العثمانية”، أي طردهم من حدوده.
إن عقود الصراع (السعودي-العثماني) جعلت أئمة الدولة السعودية على قناعة بأن تدخل الأتراك في شؤونهم الداخلية، أو دعم طرف على آخر لم تكن خلفياته بريئة، وإنما الهدف منه إيجاد منفذ لإخضاع الدولة السعودية لسلطانهم، وهو المعطى الذي تنبه إليه الإمام عبد الله بن فيصل فرفض الخضوع لحكم العثمانيين، وهو الرفض الذي عبّرت عنه مذكرات مدحت باشا حين أشارت إلى أن الباشا العثماني “أرسل إلى عبدالله الفيصل المكاتيب ورسلا فلم يُلب طلبه”، وهو ما دعا مدحت إلى محاولة تثبيت قوته بالأحساء بتعيين القومندان نافذ باشا متصرفًا عليها، ليكون عدوًّا حقيقيًّا بالقرب من عاصمة السعوديين.
حاول العثمانيون الإشاعة بأن حملة مدحت باشا على الأحساء إنما هي حملة متصالحة مع السعوديين، ولفرض قوة قريبة متحكمة بهم، وهو ما كان مرفوضًا منذ عقود، وعبَّر عنه أئمة الدولة السعودية قبل أكثر من قرن من الزمان بالإصرار على استقلالهم وعدم خضوعهم لأيِّ سلطة أجنبية عثمانية أو غيرها.
وبحسب الأحداث التي تلت حملة مدحت باشا على الأحساء؛ نلحظ أن العثمانيين كانوا يراوغون ويتبعون تكتيكًا خبيثًا بمحاولة تغليف نواياهم الاستعمارية بالمهادنة ومحاولة تمييع القضايا، والتأكيد على أن أراضي السعوديين يجب أن تخضع لهم. بينما لم يكن الإمام عبدالله بن فيصل ليقبل أي نوعٍ من الخضوع أو التنازل للعثمانيين، لذلك كان مُتيقظًا لهم وكاشفًا لسياستهم، فذاك أجبرهم على كشف حقيقتهم في أنهم لا يختلفون عن أي محتلٍّ أجنبي، يحاول فرض نفوذه وسيطرته ويحقق المزيد من المكاسب من خيرات وطنٍ يشمئز لوجوده فيه.
وعلى الرغم من أن العثمانيين احتلوا الأحساء سنة (1871)، إلا أن بقاءهم فيها لم يكن بقاءً مريحًا، إذ ظلَّت حاميتهم فيها تعيش في قلقٍ دائم، عبَّر عنه الإحسائيون في كثير من الأحداث التي جرت بينهم، والمواجهات التي دونها التاريخ من الأهالي الذين أجبروا المحتل التركي على التخفي في الحصون وخلف الأسوار حتى تطهير الأحساء على يد المؤسس المغفور له الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن سنة (1913).
- أمين سعيد، تاريخ الدولة السعودية (بيروت: دار الكاتب العربي، د.ت).
- سعود بن هذلول، تاريخ ملوك آل سعود (الرياض: مطابع الرياض، 1961).
- عبدالله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية (الرياض: مكتبة العبيكان، 1997).
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط3 (الرياض: وزارة المعارف، 1974).
- مذكرات مدحت باشا، تعريب: يوسف كمال بيه حتاته (القاهرة: المطبعة هندية، 1913).
- حسين الشريفي، “إقليم الأحساء: دراسة في أوضاعه الداخلية 1871-1913م”، مجلة مركز بابل، ع.1، حزيران (2011).