الدولة السرية داخل القصور العثمانية

خفايا آغاوات القصر

فشل العثمانيون إلى حد بعيدٍ في السياسة الاجتماعية، وتأسيس طبقات مغذية لمناصب الدولة وأفراد الجيش، ذلك حينما اعتمدوا على أسرى الحروب من الأطفال، وشكلّوا منهم جنودًا يدينون بالولاء لهم، لكن هؤلاء الأطفال كبروا وأصبحوا فيما بعد يُعرفون بجنود الإنكشارية، وبدلًا من أن يدينوا بالولاء لسلاطين العثمانيين، صار سلاطين العثمانيين رهينة في أيديهم يحركونهم كما يريدون. 

الأمر ذاته حدث مع “الآغاوات” الذين جلبهم سلاطين العثمانيين من كل حدب وصوب، واستأمنوهم على القصور وأسرارها وظنّوا أنهم ببعض الإجراءات كالإخصاء يمكن السيطرة عليهم، لكن كالعادة خاب ظنهم فقد أصبح الآغوات دولة موازية داخل القصور العثمانية، بل أصبحوا طرفًا أساسيًّا في المؤامرات التي تُحاك، والوسيلة الأقرب لأزواج السلاطين لتحقيق ما يُرِدْنَ تنفيذه من مؤامرات وجرائم.

وقبل توضيح دور الآغاوات وكيف شكّلوا دولتهم الموازية، نشير أولًا أن كلمة “آغا” متعددة المعاني، وبالنظر إلى القواميس التركية العثمانية نجدها تعني السيد، أو رئيس الأسرة، ورئيس الخدم في قصور الطبقة الأرستقراطية.

ولعل البعض يظن أن آغاوات الجيش هم الأعظم شأنًا في هذا النظام، لكن هذا إن كان سلاطين العثمانيين يهتموّن بالحرب وتأمين بلادهم من الأساس، فالحقيقة التي تشير إليها المصادر التاريخية أن أعظم الآغاوات شأنًا وأخطرهم من حيث الأدوار التي لعبوها كانوا آغاوات القصر، أي الذين عملوا داخل قصور الحكم العثمانية.

والآغاوات هم في الأصل من طبقة العبيد المملوكين، أنشأ لهم سلاطين العثمانيين مؤسسة كاملة لتكون أول مؤسسة عبودية عرفها التاريخ الإنساني، تعمل من خلال قوانين بعينها وقواعد غير مسموح الخروج عنها. 

أما آغاوات القصر فهم الحلقة الأهم في تلك المؤسسة، وكانوا يُجلبون من نواحٍ شتى، فالعبيد أصحاب البشرة البيضاء يُجْلَبُون من المجر وألمانيا، ويطلق عليهم “آق أغا” أي الخصي الأبيض، والعبيد أصحاب البشرة السوداء يسمون بالخدم الطواشي “المخصيين”، وكانوا يُجْلَبون من أسواق مصر وإفريقيا، وقد تأسس لهؤلاء العبيد ثكنات في القصور العثمانية سميت بـ”حريم آغاسي” للعبيد السود”، و”قابي آغاسي” للعبيد البيض.

أسس العثمانيون أول مؤسسة مكتملة للعبودية عرفها التاريخ الإنساني وهي مؤسسة الآغاوات.

ولكي يطمئن سلاطين العثمانيين أن جواريهم ونساءهم لن يَخُنَّهم مع هؤلاء العبيد الذين سيعملون داخل قصور آل عثمان، أقدموا على أبشع جريمة عرفها التاريخ ونهى عنها الدين الإسلامي بنصوص صريحة واضحة، وهي جريمة الإخصاء، فكان كافة العاملين من العبيد في القصور العثمانية الذين يعملون في خدمة النساء يخضعون للإخصاء فبذلك يفقدون قدرتهم الجنسية. 

ويشير كتاب “لمحة عامة إلى مصر” الذي ألفه الطبيب الفرنسي “أ.ب. كلوت” رئيس مصلحة الصحة في مصر أيام حكم محمد علي (1805-1849) أن مصر كانت المورد الأكبر الذي يستورد منه سلاطين العثمانيين الخصيان للعمل، وكانت مدينتي أسيوط وجرجا المصريتين مشهورتان بتلك العملية التي كان يوكل بها إلى جماعة من المسيحيين مهمتهم اختيار الضحايا من صغار العبيد الذين تختلف أعمارهم من ست إلى تسع سنوات، وتأتي بهم قوافل من السودان.

وكما يوضح مؤلف كتاب “لمحة عامة إلى مصر” أن الجماعات المسيحية التي شاركت في تلك الجريمة من أجل الكسب المادي كانت موضع احتقار من السكان، وكان عدد من يُشَيَّعُون سنويًا إلى قصور آل عثمان من المخصيين 300 من مصر فقط.

وبعد عملية الإخصاء البشعة يصل الآغاوات إلى قصور سلاطين العثمانيين ويُسَجَّلون في دفاتر تُسمى “أوجاق العبيد”، وبعدها يُقبل يد مربيه ويبدأ في تلقى التوجيهات المفروضة عليه، وكانت تلك التوجيهات تتعلق بكل شيء بداية من طريقة الحركة، كيفية الانحناء أمام السلطان أو السلطانة، مستوى نظره، إضافة إلى منعه من توجيه أي سؤال، أو الحديث مع فرد.

ويشمل نظام الآغاوات عشرة مناصب من الحد الأدنى إلى الأعلى، وهو ما خلق تنافسًا بين الخصيان لأقصى درجة كي يحصل على ترقية تمكنه من الحصول على أموال أو نفوذ أكثر، وبسبب هذا النظام شارك كثيرٌ من الآغاوات في الجرائم التي دبرنها حريم السلطان والمتحكمات في حركة ترقيات الآغاوات بما يملكن من سلطة أنثوية على سلاطين العثمانيين.

ويعد منصب “كيزلار آغا” بداية التدرج للمخصيين، وقد استُحْدِث هذا المنصب في عهد مراد الثالث عام (1574-1595)، إذ اختير أحد الخصيان ليكون مشرفا ومسؤولاً عن العبيد المخصيين في جناح الحرملك إذا كان من أصحاب البشرة السوداء، أما أصحاب البشرة البيضاء مهمتهم تعليم أمراء السلاطين والاهتمام بهم إلى حين البلوغ.

بالإضافة لمنصب “كيزلار آغا” هناك منصب آخر وهو الـ”أندرون” والمقصود به الآغاوات الذين تتلخص مهمتهم في تعليم أطفال فرقة الدوشرمة التوجيهات العثمانية، وتلك الفرقة تتكون من أطفال يخضعون لتدريبات قسرية ليكونوا جنودًا يحمون العرش السلطاني بعد ذلك.

أما أعلى منصب يصل إليه آغاوات القصر، فهو منصب آغا السعادة وينقسم إلى قسمين: آغا باب السعادة وهو المشرف على الآغوات البيض، وآغا دار السعادة وهو المشرف على الآغوات السود داخل الحرملك، أي مقر النساء في القصور العثمانية.

وتعددت أدوار الآغاوات داخل قصور آل عثمان، فلم تقتصر على الخدمة فقط، فمن هؤلاء اختار سلاطين العثمانيين جواسيسهم، وجندوا آغاوات لمراقبة كافة العاملين في قصور الحكم، كما كلفوهم بمراقبة النساء وتتبع حركاتهن وأحوالهن، ورغم أنه كان من الممنوع على آغاوات القصر المغادرة، فإن من يصل منهم إلى درجات متقدمة في الترقيات كان يُسمح له بالخروج لتأدية مهام يحددها سلاطين العثمانيين.

استخدمهم سلاطين العثمانيين جواسيسَ ولعبوا أدوارًا خطيرة لصالح الجواري.

وتشير المصادر التاريخية إلىى أن محمد الفاتح (1446م-1481م)، هو أول من استخدم الآغاوات كجواسيس له في قصور الحكم، خاصة في الاقتتال الداخلي بين أسرة آل عثمان طمعًا في كرسي العرش، كما سلك زوجات السلاطين مسلك أزواجهن فاستخدمن بعض الآغوات جواسيسَ لهن، كما فعلت زوجة السلطان مراد الخامس حين استعانت ببهرام آغا من أجل مقابلة عشيقها.

تعاظم دور الآغاوات منذ عصر محمد الفاتح الذي اعتمد عليهم في تنفيذ المؤامرات.

وشيئًا فشيئًا زادت تلك الأدوار ما بين الجاسوسية والمراقبة وحبك المؤامرات، حتى بات آغاوات القصر هم المتحكمون في كل شيء داخل قصور آل عثمان، ويعرفون ماذا يدور وعليهم يعتمد سلاطين العثمانيين فيما بات يشبه الدولة الموازية، خاصة أن ولاء الآغاوات لم يكن مخلصًا بالكامل فبعض منهم حاك مؤامرات ضد آل عثمان، بل إن بعضهم أحب عشيقة السلطان مثلما فعل نديم آغا حين عشق زبرجد جارية ومحبوبة السلطان عبد الحميد الثاني. 

وكأي دولة سرية، شهدت دولة آغاوات القصر داخل قصور الحكم العثمانية تنافسًا شديدًا بين آغا دار السعادة المسؤول عن العبيد السود داخل الحرملك، وآغا باب السعادة المسؤول عن العبيد البيض، واستمر هذا الصراع حتى وصل ذروته في آواخر القرن السادس عشر الميلادي، حين وصل محمد آغا الحبشي إلى منصب آغا دار السعادة وحسم الصراع لصالحه.

وساهم في حسم هذا الصراع قرب آغا دار السعادة من حريم السلطان، فساندْنَه، وتلك المعركة قد تبدوا للبعض أنها لا تتعلق بأحوال الناس في الإمبراطورية العثمانية، لكن هذا غير صحيح، فآغوات دار السعادة بعد أن حسموا الصراع لصالحهم أصبحوا مسؤولين عن أمور شتى في الامبراطورية العثمانية منها إدارة أوقاف الحرمين الشريفين، وإدارة بعض أوقاف السلاطين، وذلك زاد من نفوذهم، وكان أشهر هؤلاء الحاج بشير آغا الذي توفى عام 1746 بعد أن تولى منصب آغا دار السعادة لمدة ثلاثين عاما، كما أن هناك بعض الآغاوات استطاعوا جمع أموال طائلة بطرق غير مشروعة بسبب نفوذهم.

تحكّم الآغاوات في إدارة أوقاف الحرمين الشريفين وكافة التعيينات داخل الإمبراطورية العثمانية.

أضف إلى ذلك آن آغاوات باب السعادة لم يفقدوا نفوذهم بالكلية، فقد كان آغا باب السعادة هو من يشير على السلطان بكل التعيينات والترقيات داخل الجهاز الحكومي للدولة العثمانية، وهو ما يعني مفاصل الدولة الحقيقية باتت في يد هؤلاء، أو بالأحرى بات سلاطين العثمانيين رهينة في يد الآغاوات سواء كانوا بيضًا أو سودًا، وتكلل ذلك بأن أصبح آغا دار السعادة مُقدمًا على الوزراء في البروتوكول العثماني في الحفلات والاجتماعات الرسمية.

1. أكمل الدين إحسان أوغلي: الدولة العثمانية، تاريخ وحضارة، المجلد الأول، استانبول، 1999. 

2. خليل إينالجيك: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: محمد الأرناؤوط، بيروت، 2002.

3. حسين مجيب المصري: معجم الدولة العثمانية، القاهرة، دون تاريخ.

4. أحمد آق كونديزوآخر،الدولة العثمانية المجهولة، (استانبول: وقف البحوث العثمانية، 2008م).

5. إيلبيرأورتالي، إعادة اكتشاف العثمانيين، ترجمة: بسام شيحا (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون 2012م).

6. ماجدة صلاح مخلوف، الحريم في العصر العثماني، (القاهرة: دار الآفاق، 1998م).

7. عبد الرحيم بنحادة، العثمانيون المؤسسات والاقتصاد والثقافة، (الدار البيضاء: اتصالات سبو، 2008م)