قتلا سلطان الجزائر وسلماها للاحتلال العثماني
الأخوان عروج وبربروسا... رفعا علم القراصنة غدرًا على خريطة المغرب العربي
كان لسقوط الأندلس (1492) وقعه على الساحل العربي لشمالي إفريقيا، وخاصة المدن القريبة من الشواطئ الإسبانية، وكانت بلدات الساحل الجزائري أكثر تأثُّرًا، فقبل السقوط بعدة أعوام أرسل الأندلسيون الوفود تلو الوفود للسلاطين العثمانيين في إسطنبول مستثيرين فيهم الحميَّة الإسلامية، لكن ذلك لم يُجْدِ نفعًا مع السلطانَيْنِ محمد الفاتح، وبايزيد الثاني، اللَّذين نظرا إلى الأمر نظرة عرقية ضد العرب الأندلسيين، ومصالح سياسية واقتصادية مع الأوروبيين، فالأندلس في نهاية الأمر منافس عربي للعثمانيين في أوروبا، ولا يريد الأتراك الصدام مع الأوربيين من أجلهم.
سقطت الأندلس وسقطت معها آخر معاقل العرب في أوروبا، وبدت المدن العربية في الشمال الإفريقي مكشوفة أمام الطامعين والغزاة الأوروبيين، وانفتح الباب واسعًا أمام اللصوص والقراصنة للمغامرة واقتناص الفرصة.
وبدلًا من أن تنصّب جهود العثمانيين لاستعادة الأندلس، ودعم أهلها الذين شردوا وهجّروا في الشمال الإفريقي، انتهزوا الفرصة لاحتلال الجزائر في عام (1516)، بعد سقوط الأندلس بأعوام قليلة فقط، وقد وجد الأتراك أبواب العالم العربي مُشرعة لهم بعد سقوط الأندلس وسقوط دولة المماليك في مصر، لتنقضَّ بكل جشعها وهيمنتها على الأراضي العربية احتلالًا واستعبادًا.
بل لم تكتف الدولة العثمانية بذلك، ففتحت أبوابها أمام يهود الأندلس وقامت بتوطينهم وإعطائهم ملاذات آمنة في تركيا أولًا ثم فلسطين لاحقًا، وتركت العرب لمصيرهم المحتوم.
رأى العثمانيون في استنجاد الجزائريين بهم فرصة لاحتلال المغرب العربي وممارسة سياستهم المحتقرة للعرب.
من ناحية أخرى، خلا الجو للأوروبيين تمامًا بعد سقوط الأندلس، ذلك السقوط الذي كان توافقًا إسبانيًّا عثمانيًّا للسيطرة على البحر الأبيض المتوسط، لكن ذلك لم يمنع الإسبان من التحرّش بالساحل الإفريقي العربي، وذلك دفع السكان المحليين للاستنجاد بالعثمانيين من جديد، حين نسوا كيف خذل حكامها جيرانهم الأندلسيين قبل أعوام قليلة فقط.
العثمانيون هذه المرة كانت لهم وجهة نظر أخرى، فقد وجدوا فيها فرصة سانحة لاحتلال الجزائر بدلًا من التصدي للإسبان، وبعد استعمارهم لمصر أصبحت الخطوط البرية مفتوحة أمامهم، لقد كان من المفترض أن يدعم العثمانيون الجزائريين للوقوف في وجه العدوان الإسباني، لكن “الذئب العثماني” دخل إلى الأرض الجزائرية ورفض الخروج منها إلا بعد أكثر من 300 عام، لقد وثق الجزائريون فيمن تسمى باسم الإسلام وسرق الخلافة وعندما وصل أراضيهم بكذبه استعمرهم وجعلهم طبقة ثانية في سلطنته العرقية.
استنجد سلطان الجزائر وقتها سالم التومي بالأخوين عروج وخير الدين بربروسا، إذ اشتُهر هذان البحاران بأنهما لِصَّا بحرٍ متمرسان، ولديهما أسطول صغير هدفه قطع الطريق على السفن التجارية في البحر الأبيض المتوسط ونهبها والاستيلاء على ما فيها من أسلحة وأموال ومؤن واستعباد بحارتها.
ويورد المؤرخ الجزائري مبارك هلال الميلي في كتابه تاريخ الجزائر، أنه عندما دخل القرصان عروج إلى الجزائر استقبله الشيخ سالم التومي وسكان المدينة استقبال الفاتحين، وسارع عروج بنصب عدد من المدافع تجاه جزيرة صغيرة يسيطر عليها الإسبان، وبعث إلى قائد الحامية الإسبانية يأمره بالاستسلام، لكن القائد الإسباني رفض، فأطلق عروج نيران مدفعيته على المعقل الإسباني، إلا أن ضعف مدفعيته لم تمكنه من تحقيق الانتصار المنتظر.
ويضيف الميلي بأن هيبة الأتراك سقطت في أعين سكان الجزائر، يضاف إلى ذلك أن سكان ميناء الجزائر بدأوا يضجرون من تصرفات الأتراك الذين كانوا يعاملون الجزائريين معاملة فظة، وبدأت تظهر بوادر التمرد، إلا أن القرصان عروج ذهب بنفسه إلى منزل السلطان سالم التومي وقتله بيده في الحمام حيث وجده، وخرج على جنده وأعلن نفسه سلطانا على الجزائر.
لم يحصل مثل ذلك في التاريخ إلا على أيدي العثمانيين، فهكذا يتحول القرصان إلى حاكم، يتسلل إلى بلاده بدعوى دعمه، ثم يخذله ويتسلط على شعبه ثم يغتاله ثم يعلن نفس حاكمًا بدلًا عنه بواسطة جنده ومرتزقته الذين جلبهم إلى هنالك.
وفي مدينة تلمسان كرر عروج باشا فعلته إذ قضى على حاكمها الجزائري الشرعي أبا زيّان، ثم التفت للسكان وفرض عليهم المكوس والرسوم والضرائب، في سياسة ممنهجة لتجريف بيوت الحكم والوظائف الإدارية واستبدالها بالعنصر التركي.
يقول الباحث الجزائري محمد بن مدور: “إن العثمانيين هدموا كثيرًا من المساجد والزوايا، هل يُعقل أن يهدموا مساجد وزوايا ويبنوا أخرى، ويسمُّوا مسجدًا بنوه باسم حيوان، فمسجد كتشاوة يعني المعزاة، ثم إنهم واجهوا ثورات رفضت حكمهم للبلاد؛ لأنهم أهانوا السكان وفرضوا عليهم الضرائب”.
كما تذكر بعض المصادرِ التاريخية أن اسمَ خيرِ الدينِ بربروسَا الأصليِّ هوَ “خسرف أو خسرو”، وهو اسم بيزنطي يوناني في أصله، ويؤكد أنه مجرد قرصان استخدمته الدولة العثمانية لتحقيق مصالحها، ولإهانة الجزائريين، ومكّنته من الاستيلاء عليها.
أيضًا تؤكد المصادر التاريخية أن القرصانين عروج وأخيه بربروسا ما إن وصلا الجزائر بعد الدعوة المشؤومة من أهلها لهما، حتى قام عروج بنصب مدافعه نحو الحصن الذي يتمركز فيه الإسبان، لكنه فشل، وهذا يؤكد أن مدافعه لم تكن مدافع للجيش بل مما يحمله القراصنة للسلب والنهب، ورغم أن قصفه استمر لأكثر من عشرين يومًا، إلا أنه كان ضعيفًا ولم يؤثر في الحصن ابدًا، ما أثار الشك عند الأهالي، فضلًا عن التعامل غير الأخلاقي من البحارة مع السكان المحليين، ذلك الأمر دفع الجزائريين إلى أن يطلبوا من الحاكم الفعلي سالم التومي، أن يطردهم ويُخرجهم من البلاد، بعدما تحولوا إلى نقمة.
ولما علم القرصان عروج بدعوة الأهالي وأحس بخطر ذلك عليه وعلى طموحاته في أن يتحوّل من قرصان إلى حاكم، قام بقتل سالم التومي بيديه، ليصبح عروج صاحب السلطة المطلقة في الجزائر فأعلن نفسه سلطانًا عليها، ورفع رايته فوق أسوارها وقلاعها وبادر بسك النقد الذي يحمل شعاره.
يقول الباحث المصري وليد فكري في بحث عن علاقة عروج وأخيه بربروسا: “لقد قرر خير الدين الانضواء تحت راية العثمانيين باعتبارهم السادة الجدد، فراسل سليم الأول سنة 1519م وضمّن رسالته توسلات لربط قضية الجزائر بالعثمانيين، وبلغت طلباته من القضاة والفقهاء والأعيان ومختلف الفئات للسلطان بأن يضع الجزائر تحت تصرفه حدًّا أن وصفوا أنفسهم أنهم “عبيد للدولة العثمانية” (وهي رسالة كتبوها بأمر من خير الدين وليس من تلقاء أنفسهم) وختم رسالته بأنه كان ليتوجه بنفسه إلى إستانبول ليمثل بين يديّ السلطان لولا توسُل الجزائريين له -خير الدين- أن يبقى بينهم ليحمي بلادهم.
لم يتردد سليم الأول في تلقف الفرصة، فمن حيث لا يدري وجد قطاعًا كبيرًا من موانئ المتوسط يفتح له ذراعيه بغير تكلفة، فأرسل لخير الدين تقليدًا على حكم الجزائر وفرمانًا بتلقيبه “بكلربك”- وهو أرفع لقب لوالي عثماني-وبعث له بألفيّ جندي إنكشاري يساعدونه.
كانت صفقة رابحة للطرفين إذًا، فخير الدين لم يعد قرصانًا أو محاربًا جوالًا بل صار واليًا وقائدًا عثمانيًّا، والعثمانيون ربحوا أرضًا بثمن لا يُذكَر، بل زادوا على ذلك فعيّنوا خير الدين قائدًا لأسطولهم لاستغلال مواهبه ومهاراته رغم أن الأهالي طالبوا العثمانيين بتركه مرابطًا في شمالي إفريقيا ولكن العثماني -كالعادة- قدّم مصلحته على مصلحة الولاية.
لقد كانت حياة الجزائريين قبل وصول العثمانيين مزيجًا من الحرية والتصدي للأخطار الإسبانية، لكنهم من بعد الاحتلال العثماني تحولوا إلى شعب مُحتل تحت وطأة تسلط الجند والموظفين الأتراك، وقد أدرك الجزائريون ذلك في وقتٍ مبكر، لكن كان الوقت قد فات، إذ استولى القراصنة الأتراك على مفاصل الدولة بحجة دعمهم والوقوف معهم ضد الإسبان.
وكعادة العثمانيين دومًا، فإن تتريك أي أرض يحتلونها هدفٌ دائمٌ، إذ ربط العثمانيون حياتهم بالحضارة الشرقية الأناضولية، ونقلوا معالمها إلى الجزائر، ورفضوا الاندماج مع العنصر العربي أينما أدركوه، وهو ما حصل في الجزائر أيضًا، وتجسد ذلك في نقل النظم الإدارية والعسكرية التركية ومعاملاتهم الاقتصادية والاجتماعية وفرضها على العناصر الأندلسـية والكرغليـة والحضرية والفئات الجزائرية بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية والمالية رغم الاختلاف اللغـوي.
وعرف العهد العثماني بالإيالة الجزائرية منذ القرن السابع عشر الميلادي إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر ميلادي بالركود الثقافي مقارنة مع ما شهدته النهضة العلمية والصناعية في أوروبا، وهذا ليس غريبًا فكل العالم العربي الذي وقع تحت الاستعمار التركي واجه تلك المحنة الحضارية، إذ تعمد العثمانيون تخليفهم وإبقاءهم منعزلين حضاريًّا وثقافيًّا حتى يسهل عليهم حكمهم.
- مبارك الميلي، تاريخ الجزائر في القديم والحديث (الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، د.ت).
- حسان كشرود، رواتب الجند وعامة الموظفين وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية بالجزائر العثمانية، رسالة ماجستير، جامعة منتوري (2007).
- وليد فكري، الجريمة العثمانية (القاهرة: الرواق للنشر والتوزيع، 2021).
- مذكرات خير الدين بربروسا، ترجمة: محمد دراج (الجزائر: شركة الأصالة، 2010).
- صالح عباد، الجزائر خلال الحكم التركي 1514-1830 (الجزائر: دار هومه، 2012).
- عبدالقادر الميلق، تأثير ثورات الموريسكيين الأندلسيين على العلاقات الجزائرية الإسبانية، رسالة ماجستير، جامعة غرداية (2012).