السفاح فخري باشا..
الذي إمْتَهَنَ الحرم النبوي الشريف !!
اربعة جرائم كبرى ارتكبها السفاح فخري باشا في حق المسجد النبوي الشريف خلال فترة قيادته الجيش العثماني ( 1915 م) في مواجهة أهالي المدينة المنورة والفرسان العرب المحيطين بها من كل جانب، كل من تلك الجرائم هي في قصدها استباحة لا تغتفر، وجريمة لا يمكن تجاوزها، وأفعال لا مُسَوِّغَ لها، خاصة أنها نُفِّذَت في حق المدينة المنورة إحدى أقدس مقدسات المسلمين.
كانت المدينة -كما هي دائمًا- في سكينة وهدوء، وملاذ للعباد والمجاورين والزوار، حتى وصل السفاح في موكبه وجنوده السبعين ألفًا، الذين ضاقت بهم سبل المدينة وطرقاتها، فعاثوا فيها فسادًا ورحلوا أهلها قسريًّا، ثم بنوا الثكنات والمعسكرات والحاميات في كل ساحة وزاوية، فقلَّ الطعام، واستولوا عليه، وحرموا النساء والأطفال منه حتى حفروا القبور وأكلوا القطط والكلاب.
المهمة التي جاء إليها الجنرال السفاح فخري باشا على عجل من اسطنبول كانت -بلا شك- اقتطاع المدينة المنورة وإلحاقها بالسلطنة العثمانية خوفًا من تحريرها على أيدي الفرسان العرب، ومن ثم سقوط خرافة الخلافة العثمانية إلى الأبد، والتي ستكون في مهب الريح بخروج الحرمين الشريفين من تحت احتلالها.
الفرسان العرب يتمركزون خارج المدينة المنورة، وفخري باشا يتحصن داخلها، لكنه نسي قداسة المدينة المنورة، أو لنقل: إنها لم تكن جزءا من ثقافته ولا ثقافة من أرسلوه، وهم السلاطين الذين لم يحج منهم أحدٌ إلى الديار المقدسة، فتعامل معها كما يتعامل مع قلعة منبوذة في القرم الروسي، بينما هي المدينة النبوية، في ثراها يرقد النبي وآلاف الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى يوم دخول فخري باشا المشؤوم.
في سبيل التحصن والإبقاء على المدينة المنورة تحت سلطة العثمانيين، رغم تململ أهلها
وتوقهم للاستقلال من تحت الاحتلال العثماني بدأ فخري باشا أولى جرائمه في حق المسجد النبوي.
الجريمة الأولى.. تحويل الحرم النبوي إلى معسكر للجند ومخزن للسلاح:
قام فخري باشا بتحويل حرم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى معسكر للجند التركي
وأمر بتخزين السلاح فيه..
يصف المؤرخ المديني أحمد صقر حالة الارتباك والفوضى التي أصابت قيادة فخري باشا في المدينة قائلا: “القادة – الأتراك- يصدرون في الصباح أمراً وينقضونه في المساء، مثال ذلك أن “علجهم” فخري أمر بنقل الأدوات الحربية من القلعة إلى مسجد المصلى النبوي بميدان المناخة، فنقلها الجنود”، إلى أن قال: “عمد المتغلبون إلى ارتكاب أفظع جريمة وهي اتخاذ الحرم النبوي ثكنة عسكرية، فأودعوا المهمات الحربيات وصنوف الديناميت والمفرقعات والذخائر والأرزاق، حتى الرحى التي يطحنون بها حبوبهم كما أخبرنا بذلك الثقة عقب خروجنا”، كان العثمانيون قد نقلوا عبر القطار إلى قلب المدينة كميات هائلة من الذخيرة والمدافع والمتفجرات، وخزنوها في القلعة الشهيرة بالمدينة وفي المعسكرات وبيت الجند، لكن فخري طلب منهم نقل معظمها إلى المسجد النبوي حتى تكوَّمت داخل ساحاته وتحت أروقته، وكان أي اشتعال أو حريق أو رصاصة طائشة كفيلة بتحويل المسجد إلى ركام.
الجريمة الثانية ..تحويل مآذن الحرم إلى قلاع للحرب.
لم يتوقف فخري باشا عند جريمته الأولى بتحويل المسجد النبوي إلى معسكر للجند ومستودع للأسلحة، بل وظَّف الحرم في صراعه ومحاولته إبقاء احتلال المدينة المنورة أطول فترة ممكنة، فقام باختطافه وتحويله من مسجد للعبادة إلى منصة للحرب وأمر بنصب المدافع في أعلى المآذن لقصف الفرسان العرب المتمركزين في البوادي المجاورة للمدينة المنورة وليستخدمها أيضا في قصف المهاجمين إن دخلوا المدينة عنوة كما توهم.
بالفعل، قام الجنود برفع المدافع وإدخالها في تجويف المنائر ووجهت فوهاتها في كل اتجاه، كما فرَّغ فخري باشا عددًا كبيرًا من الجنود للتمركز فوق أسطح المسجد وداخل المآذن للقنص والمراقبة، ما فعله فخري باشا أحال الحرم إلى قلعة كبيرة للعسكر، يتحركون ويتجادلون ويضعون الخطط العسكرية، على رغم التوجيه الإلهي الذي يقول في الآية الكريمة : “لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ”.
الجريمة الثالثة..سرقة النفائس النبوية.
بعد خسائره الفادحة أحس فخري باشا بأن المدينة المنورة في الطريق إلى العودة إلى أهلها، وعلى الرغم من طلبات قادته بالانسحاب من المدينة المنورة إلا أنه أصرَّ على البقاء مرتكبًا جريمة أخرى من جرائمه في حق المسجد النبوي وجناب النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، كانت هذه المرة سرقة النفائس النبوية وترحيلها إلى الآستانة – إسطنبول، وبعدما أرسل مقترحا إلى قادته وافقت الحكومة العثمانية فورا على طلبه شريطة تحمله المسؤولية كاملة للأمر، فقام فخري باشا بالتخطيط لإدخال القطار إلى داخل المسجد النبوي عبر حي العنبرية حتى يصل إلى باب السلام، ولتنفيذ خطته أمر بهدم البيوت التي تقع في طريق الخط على رؤوس ساكنيها وأجبر ما تبقى من الرجال والنساء على العمل في أعمال الهدم والإزالة والتنظيف على أن يقدم لهم الطعام دون أجر.
بالفعل، وصل القطار إلى باب السلام، وعندها عرف أهالي المدينة السر الكبير الذي لطالما تساءلوا عنه طيلة شهرين عندما رأوا جنود فخري باشا يدخلون الحجرة النبوية الطاهرة ويسرقون الهدايا والنفائس ويرحلونها في القطار باتجاه إسطنبول؛ وخوفًا من استعادتها أو ثورة السكان عليها وضع فخري باشا 2000 جندي لمرافقة النفائس.
والأدهى من ذلك أن فخري باشا وجنوده لم يكتفوا بسرقة النفائس والهدايا النبوية، بل سرقوا في طريقهم أهِلَّة المآذن، ومكتبات المدينة المنورة.
الجريمة الرابعة.. نبش القبر الطاهر.
لعل هذه هي أكبر الجرائم التي ارتكبها فخري باشا مخلدًا اسمه في سجل السفاحين في حق المسجد النبوي الشريف، وجسد النبي الطاهر المدفون فيه، ولم يجرؤ أحد من قبل على التفكير في نبش القبر النبوي إلا من ليس له دين ولا ضمير، لكن فخري باشا فعلها، حقيقة تثبتها إحدى الوثائق الفرنسية عن مرحلة الاحتلال العثماني لمناطق من الجزيرة العربية ومنها المدينة المنورة، الوثيقة مؤرخة في ( 13 ) من يونيو ( 1917 م)، أرسلها وزیر فرنسا في القاهرة –السفير- إلى وزارة الخارجية الفرنسية في باريس متضمنةً نية فخري باشا نبش قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكانت وثائق البعثة الفرنسية في مصر أشارت إلى أن مهندساً مصريًّا لاذ بالفرار من المدينة المنورة بعدما طلب منه فخري باشا تعديل منارات المسجد النبوي لتجهيزها بالرشاشات والمدافع، إضافة إلى نبش قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للتأكد من وجود الجسد الشريف، ولم يتراجع السفاح فخري باشا إلا حين علم المسلمون في المدينة المنورة والبلدان المحيطة بها وذاع الخبر وانتشر، متذرعًا بأقبح ذنب، مبررًا نيته الشنعاء بأنه كان يريد أن يتحقَّقَ من وجودِ الرفات الشريف في القبر.
إلى جانب الوثيقة الفرنسية السرية التي تحدثت عن تلك السابقة الخطيرة في التاريخ
الإسلامي، نشرت جريدة القبلة الصادرة من مكة المكرمة في عددها ال ( 86 ) المؤرخ في ( 21 ) شعبان (1335 هـ)، إثباتًا آخر يتفق مع الوثيقة الفرنسية في تأكيد لتجاوزات السفاح فخري باشا.
هكذا خلد فخري باشا اسمه في ذاكرة عرب الجزيرة العربية، وخاصة سكان المدينة المنورة،
إذ اعتدى عليهم وهم من هم مجاورة النبي الكريم، بل تجرأ حتى على مسجده وهدايا حجرته، وأخيرًا
حاول التطاول على الجسد الطاهر في مرقده، نحن لا نتحدث هنا عن قائد عسكري ينفذ أومر قادته، بل
عن سفاح كان ينفذ أجندته بدم بارد في حق السكان الأبرياء العزل من تتريك وتهجير وتجويع وقتل
على الهوية.