لعبت النساء الصهيونيات دورًا كبيرًا في دعم نفوذهن
الامتيازات.. سر التَّمكين الصهيوني في الدولة العثمانية
“من يدفع ثمن العزف هو الذي يختار اللحن”، مقولة تجسّد واقع الحال والمآل سواء تعلق الأمر بسياق الموسيقى والطرب أو تعلق الأمر بمجال السياسة والحكم، حيث يبقى المال هو المؤثر والموجه لصناعة القرار السياسي في الدولة العثمانية على مرِّ تاريخها.
في هذا السياق، شكّلت القوة المالية للصهيونية نقطة جذب تنبّه إليها الساسة العثمانيون، الذين فتحوا أبواب السلطنة على مصراعيها لاستقبال “يهود الشتات”. ولعل اليهود تميزوا أكثر من غيرهم بنشاط علمي وتجاري ومالي مميز، جعلهم ممن لا يستغني عنهم السلطان وقادة الطبقة الحاكمة، خاصة بعد امتهانهم مهن: الأطباء، الماليين، المستشارين السياسيين والدبلوماسيين. وفي الوقت نفسه كانوا يستخدمون تأثيرهم لمساعدة وحماية إخوانهم في الدين الأقل نفوذًا، وفي حالات عديدة أكثر مما يفعله القادة الرسميون.
أدرك الصهاينة بذخ سلاطين الأتراك فتوددوا إليهم بالمال مقابل الحصول على هامش أكبر لحرية الحركة والاستقلال
قرأ الصهاينة الدولة العثمانية جيدًا، وأدركوا أن اعتمادها على الأموال لتغطية نفقات مخططاتها التوسعية نحو الغرب والجنوب، ولذلك حازوا قلوب سلاطين آل عثمان بالمال، وهو ما سمح لهم بهامش كبير من حرية التحرك والمناورة، هامش التحرك هذا استغله الصهاينة لتطوير تجارتهم ليصبحوا أغنياء، ووصلوا إلى درجة أنهم أصبحوا يقرضون الحكومات. وأدى ذلك إلى زيادة العداء تجاههم.
إن طبيعة النشاط الصهيوني تلاقت مع الأهداف العثمانية لتمنحهم وضعًا متميزًا، ومن ثم ظهرت طبقة من صهاينة اليهود حظيت بامتيازات خاصة، واستطاعت أن تترقى في السلم الطبقي وتتمكن من التحكم في بعض مفاصل صناعة القرار العثماني.
لقد كانت العلاقة بين صهاينة اليهود وسلاطين آل عثمان، علاقة براغماتية محضة، بعيدًا عن شعارات التسامح الديني وحرية الاعتقاد وباقي المُسَوِّغات التي صاغها مناصرو الأطروحات العثمانية في صيغتها الإيديولوجية، هذه العلاقة توطدت منذ أن سكن اليهود بأعداد كبيرة في منطقة أدرنة ومدينة بورصة والمناطق الشمالية الغربية من الأناضول، وقد ساعد الصهاينة الدولة العثمانية في هذه المناطق أثناء توسعاتهم، وبذلك فقد كافأ العثمانيون صهاينة اليهود وزادت الامتيازات في زمن السلطان محمد الفاتح.
الامتيازات التي قدمتها السلطات العثمانية، أدت إلى بروز شخصيات صهيونية ارتبط اسمها بتاريخ السلطنة سواء في مجال المال والأعمال، أم في مجال الطب والهندسة، وتبقى مسألة حصر هؤلاء من أصعب المسائل بالنظر إلى كثرة الأسماء اليهودية التي طبعت تاريخ السلطنة، غير أن صعوبة الحصر لا تعني قِلة عددهم.
في هذا الصدد، حاز الطبيب اليهودي جوزيف هاما وولده الطبيب موسى حمون مكانة متميزة عند السلطان سليمان القانوني، وحصل موسى حمون على رسالة من السلطان سليمان في عام (1552) معنونة إلى دوق فينيسيا طالبه فيها بوجوب السماح لامرأتين يهوديتين من أقرباء موسى حمون مغادرة الأراضي المسيحية والمجيء إلى إسطنبول.
ومن أهم الشخصيات الصهيونية التي ارتقت في مناصب الدولة العثمانية لتصل إلى المربع المُقرب من السلطان؛ شخصية جوزيف ناسي، الذي حظي بالثقة المطلقة للسلطان سليم الثاني الذي منحه سنة (1566) لقب “دوق ناكسوس”.
هذه الشخصية اليهودية ارتقت إلى أن وصلت مرتبة “الحاجب السلطاني” عندما يتعلق الأمر بمبعوثي الحكام المسيحيين إلى السلطنة، حيث كان هؤلاء يمرون على “ناسي” للنظر في أمرهم قبل تقديمهم إلى السلطان. لقد استغل جوزيف ناسي علاقته بالسلطان سليم الثاني، وزوجته نور بانو لنشر الثقافة الصهيونية، بل اعتُبر ناسي أول من أسس للفكر الصهيوني، ويُعتقد أنه مَنح بعض الأراضي لليهود في فلسطين وشجع على الهجرة إليها، حيث أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو إلى هذا الموضوع في كتابه “مكان تحت الشمس”.
تجدر الإشارة إلى أن النساء الصهيونيات لعبن دورًا مهمًّا في نفوذ اليهود في البلاط السلطاني والدفاع عن مصالحهم داخل الدولة، ولعل الدور الذي لعبته نور بانو يبقى مرجعيًّا بالنظر إلى أنها كانت أم السلطان مراد الثالث وهو ما مكّنها من لعب دور مهم لفائدة الصهاينة، خاصة أنها وجدت الظروف مهيأة داخل الحرملك من خلال العمل الذي قامت به قبلها “روكسيلانا” زوجة سليمان القانوني، التي كان لها الفضل في تمكين اليهود داخل الدولة بالنظر إلى سطوتها وقدرتها على التحكّم في ناصية القرار السياسي السلطاني لسنوات.
- ستانفورد ج. شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية، ترجمة: الصفصافي القطوري (القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، 2015).
- بنيامين نتنياهو، مكان تحت الشمس، ترجمة: محمد الدويري (عمَّان: دار الجليل، 1995).
- أحمد النعيمي، اليهود والدولة العثمانية (عمَّان: مؤسسة الرسالة، 1997).
- أحمد النعيمي، يهود الدونمة (عمَّان: دار زهران 1994).