لم يؤخر طردهم سوى المدد الخارجي

الإمام عبدالرحمن بن فيصل أرعب العثمانيين بحصرهم في الأحساء

أدار أئمة الدولة السعودية الثانية مواجهتهم مع العثمانيين في أكثر من موقع ومعركة، تارةً بالحرب وأخرى بالسياسة، إضافةً إلى بعض الاضطرابات التي كانت في الداخل من بعض الزعامات. وحين تسلَّل العثمانيون من جديد إلى شرق البلاد السعودية، وفي الأحساء تحديدًا، مستخدمين أسلوبهم القديم في الاختراقات التي تُقاد من خلال الحملات العسكرية، فوجئوا بردة الفعل السعودية العنيفة التي أربكت وجودهم، مما اضطرهم إلى التخفي من وجه السعوديين ومواجهتهم في المعارك بعد أن احتلوا بعض البلدات وتخفوا فيها من خلال حامياتهم التي لم تكن بالقوة التي تفرض إرادتها على السعوديين. وفي مهمةٍ غاية في الأهمية وصل الإمام عبد الرحمن بن فيصل إلى بغداد مبعوثًا من أخيه الإمام سعود بن فيصل عام (1871) بعد أن ألحَّ العثمانيون على المفاوضات، وكان أول عمل سياسي رسمي باسم الدولة السعودية الثانية للإمام عبدالرحمن، بهدف مفاوضة الوالي العثماني وممثل العثمانيين مدحت باشا على استعادة الأحساء لصالح الدولة السعودية، لكن الوالي العثماني رفض أي مفاوضات ولم يكن لديه أي استعداد للتفاهم لسحب قواته من الأحساء، علمًا بأن المفاوضات كانت بطلبٍ منه شخصيًّا، وبإلحاحٍ امتدَّ لفترة طويلة.

ولأن العثمانيين اعتادوا خيانة العهد، والعمل بلا شرف في ضروب السياسة ولا أخلاق ولا دين، قام مدحت بفرض الإقامة على الإمام عبدالرحمن عنده، رغم أنه وصله مبعوثًا من الإمام سعود للتفاوض، ليبقى الإمام رحمه الله مقيمًا بقوة إجبار مدحت في بغداد قرابة عامين.

وتأمل مدحت باشا أنه بما قام به مع الإمام عبدالرحمن سيُهدئ ذلك من مقاومة السعوديين لهم في الأحساء، التي ينظر إليها العثمانيون بأن لها أهميةً كبرى في استراتيجيتهم لفتح باب الوصول إلى المحيط الهندي، لتكون طريقهم البحري الوحيد للتجارة مع الهند والصين وبقية الشرق، كما أن الأحساء هي ميناء الدولة السعودية الثانية في تلك الأيام، ومن خلالها كانت تتنفس وتدير تجارتها مع بقية نواحي الخليج العربي، ومن هنا يأتي الحرص التركي في عدم التفريط بها وبذل الجهد وإرسال الجيوش للاستيلاء عليها من دولتها السعودية، وإبقاء الحاميات التركية مسيطرة عليها.

في أوائل شهر أغسطس عام (1874) وصل الإمام عبدالرحمن بن فيصل إلى البحرين قادمًا من البصرة عن طريق البحر، ومعه عشرة أشخاص من أتباعه المخلصين، ولدى وصوله إلى البحرين استُقبل بحفاوة من أميرها الشيخ عيسى بن علي آل خليفة. وعندما سمع كثير من السعوديين الموجودين في البحرين بقدومه اتصلوا به، ومن فوره بدأ الإمام بالتواصل وبدأ في بناء أولى خططه وتجهيز تحركاته لطرد العثمانيين من الأحساء، وقد ضج المكان الذي أقام فيه الإمام عبدالرحمن في البحرين بالسعوديين، وكان كثير منهم ممن ينزلون إلى البحرين للتجارة يأتون للسلام على الإمام.

علم قائد الغُزاة العثمانيين بالأحساء بما كان الإمام عبد الرحمن يقوم به من نشاط سياسي وعسكري؛ فأصابه القلق مما سمع من استفسارات رُسل الإمام عبدالرحمن، وعن موقف السعوديين المؤيد لإمامهم، وأدى توجس العثمانيين إلى قيام الوالي التركي بتحذير حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة من وجود الإمام عبدالرحمن في البحرين، وكتب إليه في أكتوبر (1874)، رسالة قال فيها: “تلقيت استخبارات فحواها بأن عبدالرحمن الفيصل وفهد بن صنيتان موجودان في البحرين حاليًّا، وتقودهما نواياهما السيئة هادفة خلق اضطرابات ضد الحكومة التركية كما تميل تصرفاتهما إلى التمرد، وأنت تساعدهما … فكان من الضروري أن أحذرك”.

شكّلت الأحساء أهمية كُبرى في الأطماع العثمانية لموقعها الفريد ودورها في النقل البحري العالمي.

وحين علم الإمام عبد الرحمن بن فيصل بفحوى رسالة قائد الحامية العثمانية التي كانت تتوجس خيفة من أي تحرك سعودي، غادر البحرين وتبعه خمسون شخصًا من السعوديين لإيمانهم بعدالة الإمام وقدرته على طرد المحتل العثماني.

قاد الإمام عبدالرحمن بن فيصل السعوديين إلى مهاجمة الأحساء، ليتمكّن من دخول مدينة الهفوف محاصرًا جنود العثمانيين داخل القلعة، وقد سقط عدد كبير من العثمانيين على أسوار الهفوف على يد قوات الإمام وحوصر الباقي منهم، وانتصر الإمام بعد هذه الحادثة؛ فاستدعى الأتراك قوات كبيرة من خارج الأحساء، وصلت في أواخر ديسمبر (1874)، في محاولة للتخفيف من الحصار الذي ضربه الإمام على الغُزاة داخل الهفوف، ورغم محاولة الإمام عبدالرحمن وجنوده مقاومة المدد العثماني، إلا أن العدد الكبير والمعدات النوعية التي يمتلكونها حالت دون النصر النهائي، ورأى الإمام بعدها أن الانسحاب إلى الرياض أفضل قرار استراتيجي في هذه الحالة، وحين وصل إلى الرياض كان الإمام سعود ابن فيصل قد اشتدّ به المرض وتوفي في 25 يناير (1875) رحمه الله.

ومما أثبتته الحروب المتتالية في الأحساء بين السعوديين والعثمانيين أن السعوديين في كل مكان من أرضهم أقوى من جيوش الدولة العثمانية مهما أخل ميزان العدد والعتاد، بدليل الانتصارات التي يحققها السعوديون رغم قلة عتادهم ومواجهة المدد الذي لا ينقطع من الأتراك العثمانيين، تُثبت وثيقة تاريخية نشرتها صحيفة الشرق الأوسط، وهي عبارة عن رسالة من أحد العثمانيين إلى فرحان بن خيرالله عامل الدولة السعودية في الأحساء، وقد وصفت الشرق الأوسط الوثيقة بـــ: “في هذه الوثيقة ما يؤكد الاعتراف العثماني الواضح أن منطقة الأحساء هي من الأقاليم التي تتبع آل سعود، ومن ثم فهي ليست مقاطعة تابعة لمتصرفية البصرة العثمانية ولا لأية سلطة غير حكّام وسط الجزيرة العربية منذ القدم، وحتى خلال فترة الفراغ السياسي ما بين الدولة السعودية الثانية والثالثة”.

انطلق الإمام عبد الرحمن بن فيصل من البحرين ليربك غُزاة الأتراك في الأحساء.

وبيَّنت الوثيقة العثمانية ضعف حيلة الأتراك أمام قوة السعوديين في أراضيهم، بكيل كثير من العبارات المتناقضة بين الترغيب والتهديد، مما يدلل على ضعف الحيلة التي حاصرتهم، إذ لم يكن أمامهم سوى فتح باب الحوار والتفاوض؛ لأنهم آمنوا بما يمتلكه السعوديون من قوة إيمان بوطنهم، رغم قلتهم مقارنة بالقوات الغازية، وضعف عتادهم وأسلحتهم مقارنةً بالأسلحة التركية التي كانت متطورة بشكلٍ ملحوظ عما كان يمتلكه السعوديون.

  1. عبد الله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية، ط12 (الرياض: مكتبة العبيكان، 2003).

 

  1. عبد الفتاح أبو علية، تاريخ الدولة السعودية الثانية (الرياض: دار المريخ، 1991).

 

  1. عبد الله السبيعي، التصدي السعودي للحكم العثماني للأحساء والقطيف 1288-1331ه/ 1871-1913م دراسة وثائقية (الرياض: مطابع الجمعة الإلكترونية، 1999).

 

  1. مذكرات مدحت باشا، ترجمة: يوسف كمال حتاته (القاهرة: المطبعة الهنديّة، 1913).

 

  1. محمد عرابي نخله، تاريخ الأحساء السياسي 1818-1913م (الكويت: ذات السلاسل، 1980).

 

  1. اكتشاف وثيقة عثمانية نادرة بخط عربي تصحح خطأً تاريخيًّا ظل مثيرا للجدل، صحيفة الشرق الأوسط، الاثنيـن 24 نوفمبر (2003)، عدد رقم (9127).